بذلك المنازل العالية، و * (أجر غير ممنون) *، أي: غير مقطوع، بل لذات متوافرة، وأفراح متواترة، ونعم متكاثرة، في أبد لا يزول، ونعيم لا يحول، أكلها دائم وظلها. * (فما يكذبك بعد بالدين) *، أي: أي شيء يكذبك أيها الإنسان، بيوم الجزاء على الأعمال، وقد رأيت من آيات الله الكثيرة ما يحصل لك به اليقين، ومن نعمه ما يوجب عليك أن لا تكفر بشيء منها؟ * (أليس الله بأحكم الحاكمين) *، فهل تقتضي حكمته أن يترك الخلق سدى لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون؟ أم الذي خلق بني الإنسان أطوارا بعد أطوار، وأوصل إليهم من النعم والخير والبر ما لا يحصونه، ورباهم التربية الحسنة، لا بد أن يعيدهم إلى دار هي مستقرهم، وغايتهم التي إليها يقصدون، ونحوها يؤمون. تم تفسير سورة التين والحمد لله. سورة العلق * (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم * كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى * أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندعو الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب) * هذه السورة أول السور القرآنية نزولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنها نزلت في مبادئ النبوة، إذ كان لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان. فجاءه جبريل عليه السلام بالرسالة، وأمره أن يقرأ، فاعتذر، وقال: (ما أنا بقارئ) فلم يزل به حتى قرأ. فأنزل الله: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * عموم الخلق. ثم خص الإنسان، وذكر ابتداء خلقه * (من علق) *. فالذي خلق الإنسان، واعتنى بتدبيره، لا بد أن يدبر بالأمر والنهي، وذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب. ولهذا أتى بعد الأمر بالقراءة، بخلقه للإنسان. ثم قال: * (اقرأ وربك الأكرم) *، أي: كثير الصفات واسعها، كثير الكرم والإحسان، واسع الجود، الذي من كرمه أن علم أنواع العلوم. و * (علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) * فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه، لا يعلم شيئا، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، ويسر له أسباب العلم. فعلمه القرآن، وعلمه الحكمة، وعلمه بالقلم، الذي به تحفظ العلوم، وتضبط الحقوق، وتكون رسلا للناس، تنوب مناب خطابهم. فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها، على جزاء ولا شكور. ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق. ولكن الإنسان لجهله وظلمه إذا رأى نفسه غنيا، طغى وبغى، وتجبر عن الهدى، ونسي أن لربه الرجعى، ولم يخف الجزاء، بل ربما وصلت به الحال إلى أنه يترك الهدى بنفسه، ويدعو غيره إلى تركه، فينهى عن الصلاة التي هي أفضل أعمال الإيمان، يقول الله لهذا المتمرد العاتي: * (أرأيت) * أيها الناهي للعبد إذا صلى * (إن كان) * العبد المصلي * (على الهدى) * العلم بالحق، والعمل به * (أو امر) * غيره * (بالتقوى) *. فهل يحسن أن ينهى، من هذا وصفه؟ أليس نهيه من أعظم المحاده لله، والمحاربة للحق؟ فإن النهي لا يتوجه إلا ممن هو في نفسه على غير الهدى، أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى. * (أرأيت إن كذب) * الناهي بالحق * (وتولى) * عن الأمر، أما يخاف الله، ويخشى عقابه؟ * (ألم يعلم بأن الله يرى) * ما يعمل ويفعل؟ ثم توعده إن استمر على حاله فقال: * (كلا لئن لم ينته) * عما يقول ويفعل * (لنسفعن بالناصية) *، أي: لنأخذن بناصيته أخذا عنيفا، وهي حقيقة بذلك، فإنها * (ناصية كاذبة خاطئة) *، أي: كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها. * (فليدع) * هذا الذي حق عليه العذاب * (ناديه) *، أي: أهل مجلسه وأصحابه، ومن حوله، ليعينوه على ما نزل به. * (سندعوا الزبانية) *، أي: خزنة جهنم، لأخذه وعقوبته. فلينظر أي الفريقين أقوى وأقدر؟ فهذه حالة الناهي، وما توعد به من العقوبة. وأما حالة المنهي، فأمره الله أن لا يصغي إلى هذا الناهي، ولا ينقاد لنهيه، فقال: * (كلا لا تطعه) *، أي: فءنه لا يأمر إلا بما فيه الخسار. * (واسجد) * لربك * (واقترب) * منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات، فإنها كلها تدني من رضاه، وتقرب منه. وهذا عام لكل ناه عن الخير، ولكل منهي
(٩٣٠)