تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٩٢٥
الأمين، وهو مكة المكرمة، أفضل البلدان على الإطلاق، خصوصا وقت حلول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها. * (ووالد وما ولد) *، أي: آدم وذريته. والمقسم عليه قوله: * (لقد خلقنا الإنسان في كبد) * يحتمل أن المراد بذلك ما يكابده الإنسان ويقاسيه، من الشدائد في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم يقوم الأشهاد. وأنه ينبغي له أن يسعى في عمل يريحه من هذه الشدائد، ويوجب له الفرح والسرور الدائم. وإن لم يفعل، فإنه لا يزال يكابد العذاب الشديد، أبد الآباد. ويحتمل أن المعنى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، وأقوم خلقة، يقدر على التصرف والأعمال الشديدة. ومع ذلك، فإنه لم يشكر الله على هذه النعمة العظيمة، بل بطر بالعافية وتجبر على خالقه، فحسب بجهله وظلمه أن هذه الحال ستدوم له، وأن سلطان تصرفه لا ينعزل، ولهذا قال: * (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) * ويطغى ويفتخر بما أنفق من الأموال على شهوات نفسه، حيث * (يقول أهلكت مالا لبدا) *، أي: كثيرا، بعضه فوق بعض. وسمى الله الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكا، لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق، ولا يعود إليه من إنفاقه إلا الندم والخسارة، والتعب والقلة، لا كمن أنفق في مرضاة الله، في سبيل الخير، فإن هذا قد تاجر مع الله، وربح أضعاف أضعاف ما أنفق. قال الله متوعدا هذا الذي افتخر بما أنفق في الشهوات: * (أيحسب أن لم يره أحد) *، أي: أيظن في فعله هذا، أن الله لا يراه ولا يحاسبه على الصغير والكبير؟ بل قد رآه الله، وحفظ عليه أعماله، ووكل به الكرام الكاتبين، لكل ما عمله من خير وشر. ثم قرره بنعمه، فقال: * (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين) * للجمال والبصر، والنطق، وغير ذلك من المنافع الضرورية فيها، فهذه نعم الدنيا. ثم قال في نعم الدين: * (وهديناه النجدين) *، أي: طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال، والرشد من الغي. فهذه المنن الجزيلة، تقتضي من العبد أن يقوم بحقوق الله، ويشكره على نعمه، وأن لا يستعين بها على معاصي الله، ولكن هذا الإنسان لم يفعل ذلك. * (فلا اقتحم العقبة) *، أي: لم يقتحمها ويعبر عليها، لأنه متبع لهواه. وهذه العقبة شديدة عليه، ثم فسر هذه العقبة بقوله: * (وما أدراك ما العقبة فك رقبة) *، أي: فكها من الرق، بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها، ومن باب أولى فكاك الأسير المسلم عند الكفار. * (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) *، أي: مجاعة شديدة، بأن يطعم وقت الحاجة، أشد الناس حاجة. * (يتيما ذا مقربة) * جامعا بين كونه يتيما، وفقيرا ذا قرابة. * (أو مسكينا ذا متربة) *، أي: قد لزق بالتراب من الحاجة والضرورة. * (ثم كان من الذين آمنوا) * وعملوا الصالحات، أي: آمنوا بقلوبهم بما يجب الإيمان به، وعملوا الصالحات بجوارحهم. فدخل في هذا كل قول وفعل واجب أو مستحب. * (وتواصوا بالصبر) * على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضا، على الانقياد لذلك، والإتيان به، كاملا منشرحا به الصدر، مطمئنة به النفس. * (وتواصوا بالمرحمة) * للخلق، من إعطاء محتاجهم، وتعليم جاهلهم، والقيام بما يحتاجون إليه من جميع الوجوه، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه. أولئك قاموا بهذه الأوصاف، والذين وفقهم الله لاقتحام العقبة * (أولئك أصحاب الميمنة) * لأنهم أدوا ما أمر الله به من حقوقه وحقوق عباده، وتركوا ما نهوا عنه، وهذا عنوان السعادة وعلامتها. * (والذين كفروا بآياتنا) * بأن نبذوا هذه الأمور وراء ظهورهم، فلم يصدقوا بالله، ولا آمنوا به، ولا عملوا صالحا، ولا رحموا عباد الله. * (هم أصحاب المشئمة * عليهم نار مؤصدة) *، أي: مغلقة، في عمد ممددة،
(٩٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 920 921 922 923 924 925 926 927 928 929 930 ... » »»