النقل والعقل، والحس والمشاهدة، كما هو مذكور معروف عند كثير من الناس، خصوصا في هذه الأزمنة، التي وقف فيها الناس على أكثر أرجائها، بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد. فإن التسطيح، إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدا، الذي لو سطح، لم يبق له استدارة تذكر. وأما جسم الأرض الذي هو كبير جدا وواسع، فيكون كرويا مسطحا، ولا يتنافى الأمران، كما يعرف ذلك أرباب الخبرة. * (فذكر إنما أنت مذكر) *، أي: ذكر الناس وعظهم وأنذرهم وبشرهم، فإنك مبعوث لدعوة الخلق إلى الله وتذكيرهم، ولم تبعث مسيطرا عليهم، مسلطا، ولا موكلا بأعمالهم. فإذا قمت بما عليك، فلا عليك بعد ذلك لوم، كقوله تعالى: * (وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) *. وقوله: * (إلا من تولى وكفر) *، أي: لكن من تولى عن الطاعة وكفر بالله * (فيعذبه الله العذاب الأكبر) *، أي : الشديد الدائم، * (إن إلينا إيابهم) * أي: رجوع الخلائق وجمعهم في يوم القيامة. * (ثم إن علينا حسابهم) * على ما عملوا، من خير وشر. سورة الفجر * (والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد) * الظاهر أن المقسم عليه، هو المقسم به، وذلك جائز مستعمل، إذا كان أمرا ظاهرا مهما، وهو كذلك في هذا الموضع. فأقسم تعالى بالفجر، الذي هو آخر الليل، ومقدمة النهار، لما في إدبار الليل، وإقبال النهار، من الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى، وأنه تعالى هو المدبر لجميع الأمور، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. ويقع في الفجر، صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها. ولهذا أقسم بعده، بالليالي العشر، وهي على الصحيح: ليالي عشر رمضان، أو عشر ذي الحجة، فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات، ما لا يقع في غيرها. وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها، صيام آخر رمضان الذي هو أحد أركان الإسلام العظام. وفي أيام عشر ذي الحجة، الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة، يحزن لها الشيطان، فإنه ما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله على عباده. ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة. وهذه أشياء معظمة، مستحقة أن يقسم الله بها. * (والليل إذا يسر) *، أي: وقت سريانه، وإرخائه ظلامه على العباد، فيسكنون ويستريحون، ويطمئنون، رحمة منه تعالى وحكمة. * (هل في ذلك) * المذكور * (قسم لذي حجر) * أي: لذي عقل؟ نعم، بعض ذلك يكفي، لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد. يقول تعالى: * (ألم تر) * بقلبك وبصيرتك * (كيف فعل ربك بعاد) * هذه الأمة الطاغية، وهي * (إرم) * القبيلة المعروفة في اليمن * (ذات العماد) *، أي: القوة الشديدة، والعتو والتجبر. * (التي لم يخلق مثلها في البلاد) *، أي: في جميع البلدان في القوة والشدة، كما قال لهم نبيهم هود عليه السلام: * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) *. * (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) *، أي: وادي القرى، نحتوا بقوتهم الصخور، فاتخذوها مساكن. * (وفرعون ذي الأوتاد) *، أي: ذي الجنود الذين ثبتوا ملكه، كما تثبت الأوتاد ما يراد إمساكه بها. * (الذين طغوا في البلاد) * هذا الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومن تبعهم، فإنهم طغوا في بلاد الله، وآذوا عباد الله، في دينهم ودنياهم، ولهذا قال: * (فأكثروا فيها الفساد) * وهو العمل بالكفر وشعبه، من جميع أجناس المعاصي. وسعوا في محاربة الرسل، وصد الناس عن سبيل الله. فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم، أرسل الله عليهم من عذابه ذنوبا وسوط عذاب. * (إن ربك لبالمرصاد) * لمن يعصيه، يمهله قليلا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. * (ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) * يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم، لا علم له بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن أن إكرام الله في الدنيا وإنعامه عليه، يدل على كرامته وقربه منه. وإنه إذا * (قدر عليه رزقه) * أي: ضيقه، فصار يقدر قوته لا يفضل عنه، أن هذا إهانة من الله
(٩٢٣)