تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٥ - الصفحة ٧٤
جادين ويشترك كلها في أنها كلمات كفر، فإن جعلوا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله فما بهم إلا تعويج كتاب الله تعالى ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزأ لم يكن لقوله سبحانه: * (ما لهم بذلك من علم) * الخ معنى لأن الواجب فيمن تكلم بالحق استهزاء أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب، ولا يخفى أن رده بأنه لا يدل عليه السياق صحيح، وأما ما ذكر من حكاية الله سبحانه والتعويج فلا لأنه تعالى ما حكى عنهم قولا أولا بل أثبت لهم اعتقادا يتضمن قولا أو فعلا وقد بين أنهم مستخفون في ذلك العقد كما أنهم مستخفون في هذا القول فقوله: لو نطقوا الخ لا مدخل له في السابق وليس فيه تعويج البتة من هذا الوجه وكذلك قوله: لم يكن لقوله تعالى: * (ما لهم) * الخ معنى مردود لأن الاستهزاء باب من الجهل كما يدل عليه قول موسى عليه السلام * (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * وقد تقدم في البقرة، وأما الكذب فراجع إلى مضمونه والمراد منه كما سمعت فمن قال لا إله إلا الله استهزاء مكذب فيما يلزم من أنه اخبار عن إثبات التعدد لأنه إخبار عن التوحيد فافهم كذا في " الكشف ".
وفيه أيضا أن قولهم: * (لو شاء الرحمان) * الخ فهم منه كونه كفرا من أوجه. أحدها: أنه اعتذار عن عبادتهم الملائكة عليهم السلام التي هي كفر وإلزام أنه إذا كان بمشيئته تعالى لم يكن منكرا.
والثاني: أن الكفر والايمان بتصديق ما هو مضطر إلى العلم بثبوته بديهة أو استدلالا متعلقا بالمبدأ والمعاد وتكذيبه لا بإيقاع الفعل على وفق المشيئة وعدمه.
والثالث: أنهم دفعوا قول الرسل بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة ثم أنهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى شأنه فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم للعباد وشاء سبحانه جحودهم وشاء جل وعلا دخولهم النار فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وإليه الإشارة بقوله تعالى في مثله: * (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) * (الأنعام: 149) وفيه أنهم يعجزون الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا ما أمر سبحانه به ولا ينهى جل شأنه إلا وهو سبحانه لا يريده وهذا تعجيز من وجهين. إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه؛ وهذا بعينه مذهب إخوانهم من القدرية؛ ولهذه النكتة جعل قولهم: * (وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم) * (الزخرف: 20) معتمد الكلام ولم يقل: وعبدوا الملائكة وقالوا: لو شاء ونظير قولهم في أنه إنما أتى به لدفع ما علم ضرورة قوله تعالى: * (لو شاء ربنا لأنزل ملائكة) * (فصلت: 14) فالدفع كفر والتعجيز كفر في كفر، وقوله تعالى: * (ما لهم بذلك من علم) * (الزخرف: 20) يحتمل أن يرجع إلى جميع ما سبق من قوله تعالى: * (وجعلوا له من عباده) * (الزخرف: 15) إلى هذا المقام ويحتمل أن يرجع إلى الأخير فقد ثبت أنهم قالوه من غير علم وهو الأظهر للقرب وتعقيب كل بإنكار مستقل وطباقه لما في الأنعام، وقوله سبحانه: * (أن هم إلا يخرصون) * على هذا التكذيب المفهوم منه راجع إلى استنتاج المقصود من هذه اللزومية فقد سبق أنها عليهم لا لهم ولوح إلى طرف منه في سورة الأنعام أو إلى الحكم بامتناع الانفكاك مع تجويز الحاكم الانفكاك حال حكمه فإن ذلك يدل على كذبه وإن كان ذلك الحكم في نفسه حقا صحيحا يحق أن يعلم كما تقول زيد قائم قطعا أو البتة وعندك احتمال نقيضه.
وليس هذا رجوعا إلى مذهب من جعل الصدق بطباقه للمعتقد فافهم، على أنه لما كان اعتذارا على ما مر صح أن يرجع التكذيب إلى أنه لا يصلح اعتذارا أي أنهم كاذبون في أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها، وهذا ما آثره
(٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 ... » »»