حتى إذا حضروها، و * (ما) * مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور لأنها تؤكد ما زيدت بعده فهي تؤكد معنى إذا، و * (إذا) * دالة على اتصال الجواب بالشرط لوقوعهما في زمان واحد، وهذا مما لا تعلق له بالنحو حتى يضر فيه أن النحاة لم يذكروه كما شنع به أبو حيان وأكد لأنهم ينكرونه، وفي الكلام حذف والتقدير حتى إذا ما جاؤها وسؤلوا عما أجرموا فأنكروا.
* (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) * واكتفى عن المحذوف بذكر الشهادة لاستلزامها إياه، ولا يأبى التقدير تأكيد الاتصال إذ يكفي للاتصال وقوع ذلك في مجلس واحد، والظاهر أن الجلود هي المعروفة، وقيل: هي الجوارح كني بها عنها، وقيل: كني بها عن الفروج، قيل: وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفي " الإرشاد " أنه الأنسب بتخصيص السؤال في قوله تعالى:
* (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) *.
* (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا) * فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وفيه نظر ولعل إرادة فالظاهر أولى، ولعل تخصيص السؤال بالجلود لأنها بمرأى منهم بخلاف السمع والبصر أو لأنها هي مدركة العذاب بالقوة المودعة فيها كما يشعر به قوله تعالى: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) * (النساء: 56) قاله الجلبي، ثم نقل عن العلامة الثاني في ذلك أن الشهادة من الجلود أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر، وتعقبه بقوله: فيه نظر فإن الجلد محل القوة اللامسة التي هي أهم الحواس للحيوان كما أن السمع والبصر محل السامعة والباصرة والذي ينطق الأعيان دون الأعراض ثم إن اللامسة تشتمل على الذائقة التي هي الأهم بعد اللامسة، ثم قال: ويلوح مما قررناه وجه آخر للتخصيص فإن الأهمية للإنسان والاشتمال على أهم من غيرها يصلح أن يكون مخصصا، فانقلاب ما يرجون منه أكمل النفع أعجب ومثله أحق بالتوبيخ من غيره. واعترض عليه بأن رده على العلامة لم يصادف محزه إذ ليس المراد مما ذكره من أنها ليس من شأنها الإدراك إلا إدراك أنواع المعاصي التي يشهد عليها كالكفر والكذب والقتل والزنا مثلا وإدراك مثلها منحصر في السمع والبصر. وأنت تعلم بعد طي كشح البحث في هذا الجواب أن ما ذكره العلامة لا يناسب ظاهر السؤال أعني * (لم شهدتم علينا) * وأولى ما قيل من أوجه التخصيص: أن المدافعة عن الجلود أزيد من المدافعة عن السمع والبصر فإن جلد الإنسان الواحد لو جزىء لزاد على ألف سمع وبصر وهو يدافع عن كل جزء ويحذر أن يصيبه ما يشينه فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع.
وفي الحديث - إن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ثم تنطق الجوارح فيقول: تبا لك فعنك كنت أدافع، ووجه إفراد السمع قد مر أول التفسير، ووجه الاقتصار على السمع والبصر والجلد أشار إليه أبو حيان قال: لما كانت الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وكان الذوق مندرجا في اللمس إذ بمماسة جلد اللسان الرطب للمذوق يحصل إدراك طعم المذوق وكان حس الشم ليس فيه تكليف لا أمر ولا نهي وهو ضعيف اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس، وللبحث فيه مجال. وكأني بك تختار أن المراد بالجلود ما سوى السمع والأبصار وأن ذكر السمع لما أنه وسيلة إدراك أكثر الآيات التنزيلية وذكر الأبصار لما أنها وسيلة إدراك أكثر الآيات التكوينية.