تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢١ - الصفحة ٤٠
فكأنه قيل: أقيموا وجوهكم منيبين.
وقال الفراء: أي أقم وجهك ومن تبعك كقوله تعالى: * (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) * (هود: 112) فلذلك قال سبحانه: * (منيبين) * وفي المرشد أن * (منيبين) * متعلق بمضمر أي كونوا منيبين لقوله تعالى بعد: * (ولا تكونوا من المشركين) * (الروم: 31) اه‍. ولا يخفى على المنصف حسن كلام الزمخشري، وما ذكر من أن خطابه صلى الله عليه وسلم خطاب الأمة يؤكد الدلالة وعلى ذلك المضمر لا أنه يجوز أن يكون * (منيبين) * حالا من الضمير في * (أقم) * وظاهر كلام الفراء يقتضي كون الحال من مذكور ومحذوف وهو قليل في الكلام، وإضمار كونوا مع إضمار فعل ناصب لفطرة الله موجب لكثرة الاضمار، وإضماره دون إضمار فيما قبل موجب لارتكاب خلاف المتبادر هناك، والفطر على ما قال ابن الأثير للحالة كالجلسة والركبة من الفطرة بمعنى الابتداء والاختراع، وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهيء لادراكه، وقالوا: معنى لزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به باتباع الهوى وتسويل شياطين الإنس والجن، ووصفها بقوله تعالى: * (التي فطر الناس عليها) * لتأكيد وجوب امتثال الأمر، وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام.
وفي الخبر ما يدل عليه، أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمر الصفار قال: سألت قتادة عن قوله تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * فقال: حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فطرة الله التي فطر الناس عليها دين الله تعالى " والمراد بفطرهم على دين الإسلام خلقهم قابلين له غير نابين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوبا للعقل مساوقا للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر، ففي " الصحيحين " عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " والمراد بالناس على التفسرين جميعهم.
وزعم بعضهم أن المراد بهم على التفسير الثاني المؤمنون وليس بشيء. واستشكل الاستغراق بأنه ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع على الكفر. وأجيب بأن معنى ذلك أنه قدر أنه لو عاش يصير كافرا بإضلال غيره له أو بآفة من الآفات البشرية، وهذا على ما قيل هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: " الشقي شقي في بطن أمه " وذلك لا ينافي الفطر على دين الإسلام بمعنى خلقه متهيأ له مستعدا لقبوله فتأمل فالمقام محتاج بعد إلى تحقيق، وقيل: فطرة الله العهد المأخوذ على بني آدم، ومعنى فطرهم على ذلك على ما قيل خلقهم مركوزا فيهم معرفته تعالى كما أشير إليه بقوله سبحانه: * (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) * (لقمان: 25) وقوله سبحانه: * (لا تبديل لخلق الله) * تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الامتثال به فالمراد بخلق الله فطرته المذكورة أولا ففيه إقامة المظهر مقام المضمر من غير لفظه السابق، والمعنى لا صحة ولا استقامة لتبديل فطرة الله تعالى بالإخلال بموجبها وعدم ترتيب مقتضاها عليها باتباع الهوى وقبول وسوسة الشياطين، وقيل: المعنى لا يقدر أحد على أن يغير خلق الله سبحانه وفطرته عز وجل فلا بد من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من إدراكه ضرورة، فإن التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعا فالتعليل حينتذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة
(٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 ... » »»