للتنبيه على أن كلا من ذلك برهان مستقل على أن حكايته عليه الصلاة والسلام للقصة بطريق الوحي الإلهي ولو روعي الترتيب الوقوعي، ونفي أولا الثواء في أهل مدين ونفي ثانيا الحضور عند النداء ونفي ثالثا الحضور عند قضاء الأمر لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر كما مر في قصة البقرة، ومن الناس من فسر قضاء الأمر بالاستنباء والنداء بالنداء لأخذ التوراة بقوله تعالى: * (خذ الكتاب بقوة) * (مريم: 12) رعاية للترتيب الوقوعي بينهما وتعقب بأنه يفوت عليه التنبيه المذكور مع أنه بهذا القدر لا يرتفع تغيير الترتيب الوقوعي بالكلية بين المتعاطفات لأن الثواء في أهل مدين متقدم على القضاء والنداء في الواقع، وقد وسط في النظم اكلريم بينهما، وأيضا ما تقدم من تفسير كل من القضاء والنداء بما فسر أنسب بما يلي كلا من الاستدراك، ومما يستغرب أن بعض من فسر ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي فسر الشاهدين بالسبعين المختارين للميقات ولا يكاد يتسنى ذلك عليه لأنهم إنما كانوا مع موسى عليه السلام لما أعطى التوراة فكان عليه أن يفسره بغير ذلك وقد تقدم لك عدة تفاسير لا يأبى شيء منها تفسيره ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي، وجوز على التفسير بما يوافق كون المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام الذين كانوا حول النار فإن الآثار ناطقة بحضورهم حولها عند ما أتاها موسى عليه السلام وكذا قوله تعالى: * (أن بورك من في النار ومن حولها) * (النمل: 8) في قول، هذا وفي الآيات تفسيرات أخر فقال الفراء في قوله تعالى: * (وما كنت ثاويا) * (القصص: 45) الخ أي وما كنت مقيماف في أهل مدين مع موسى عليه السلام فتراه وتسمع كلامه وها أنت تتلو عليهم أي على أمتك آياتنا فهو منقطع اه، ونحوه ما روي عن مقاتل فيه وهو أن المعنى لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا إليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمت، وقال الضحاك: يقول سبحانه إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم آيات الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء اه. ولا يخفى أن ما قدمنا أولى بالاعتبار. وذهب جمع إلى أن النداء في قوله تعالى: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) * (القصص: 46) كان نداء فيما يتعلق بهذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وذكروا عدة آثار تدل على ذلك.
واخرج الفريابي. والنسائي. وابن جرير. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه. وابن مردويه. وأبو نعيم. والبيهقي معا في الدلائل عن أبي هريرة قال في ذلك نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني وأستجبت لكم قبل أن تدعوني. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا، وأخرج هو أيضا. وأبو نعيم في الدلائل. وأبو نصر السجزي في الإبانة. والديلمي عن عمرو بن عيينة قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: * (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك) * (القصص: 46) ما كان الندار وما كانت الرحمة؟ قال كتاب كتبه الله تعالى قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ثم وضعه على عرشه ثم نادى يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة.
وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما قرب الله تعالى موسى إلى طور سيناء نجيا قال: أي رب هل أجد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا وكلمتني تكليما قال: نعم. محمد عليه الصلاة والسلام أكرم على منك.