وهو لم يتصف بصفتهم، وأن جواب الرسل المحكي بقوله تعالى: * (قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله) * تسليم لقوله عليه السلام في لوط مع ادعاء مزيد العلم به باعتبار الكيفية وأنهم ما كانوا غافلين عنه، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله على الاعتراض، أو بيان وقت إهلاكهم بوقت لا يكون لوط وأهله بين ظهرانيهم على المعارضة، وفيه ما يدل على جواز تأخير البيان عن الخطاب في الجملة، والذي يغلب على الظن أنهم أرادوا بأهل القرية من نشأ بها على ما هو المتعارف فلا يكون لوط عليه السلام داخلا في الأهل، ويؤيد ذلك تأييدا ما قول قومه * (أخرجوا آل لوط من قريتكم) * (النمل: 56) وفهم إبراهيم عليه السلام ما أرادواه وعلم أن لوطا ليس من المهلكين إلا أنه خشي أن يكون هلاك قومه وهو بين ظهرانيهم في القرية فيوحشه ذلك ويفزعه.
ولعله عليه السلام غلب على ظنه ذلك حيث لم يتعضروا لإخراجه من قرية المهلكين مع علمهم بقرابته منه ومزيد شفقته عليه فقال: * (إن فيها لوطا) * على سبيل التحزن والتفجع كما في قوله تعالى: * (إني وضعتها أنثى) * وجل قصده إن لا يكون فيها حين الإهلاك فأخبروه أولا بمزيد علمهم به وأفادوه ثانيا بما يسره ويسكن جأشه نظير ما في قوله تعالى: * (والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) * (آل عمران: 36) وأكدوا الوعد بالتنيجة إما للإشارة إلى مزيد اعتنائهم بشأنه وإما لتنزيلهم إبراهيم عليه السلام منزلة من ينكر تنجيته لما شاهدوا منه في حقه، وتحمل النجية على إخراجه من بين القوم وفصله عنهم وحفظه مما يصيبهم فإنها بهذا المعنى الفرد الأكمل، ويلائم هذا ما قيل في قوله تعالى: * (إلا امرأته كانت من الغابرين) * أي من الباقين في القرية وهو أحد تفسيرين، ثانيهما ما روى عن قتادة وهو تفسيره الغابرين بالباقين في العذاب فتأمل، فكلام الله تعالى ذو وحوه، وفسر الأهل هنا بأتباع لوط عليه السلام المؤمنين، وجملة * (كانت من الغابرين) * مستأنفة وقد مر الكلام في ذلك وكذا في الاستثناء فارجع إليه.
* (ولمآ أن جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين) * * (ولما أن جاءت رسلنا) * المذكورون بعد مفارقتهم إبراهيم عليه السلام * (لوطا سيء بهم) * أي اعتراه المساءة والغم بسبب الرسل مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء كما هو عادتهم مع الغرباء، وقد جاءوا إليه عليه السلام بصور حسنة إنسانية.
وقيل: ضمير * (بهم) * للقوم أي سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم، وكذا ضمير * (بهم) * الآتي وليس بشيء، و * (أن) * مزيدة لتأكيد الكلام التي زيدت فيه فتؤكد الفعلين واتصالهما المستفاد من لما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان فكأنه قيل: لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث.
* (وضاق بهم ذرعا) * أي وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم: ضاقت يده، ويقابله رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له قادرا عليه، وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع.
* (وقالوا لا تخف ولا تحزن) * عطف على سيء، وجوز أن يكون عطفا على مقدر أي قالوا: إنا رسل ربك وقالوا الخ، وأيا ما كان فالقول كان بعد أن شاهدوا فيه مخايل التضجر من جهتهم وعاينوا أنه عليه السلام قد عجز عن مدافعة قومه حتى آلت به الحال إلى أن قال: * (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) * (هود: 80) والخوف للمتوقع والحزن للواقع في الأكثر، وعلهي فالمعنى لا تخف من تمكنهم منا ولا تحزن على قصدهم إيانا وعدم اكتراثهم بك، ونهيهم عن الخوف من التمكن إن كان قبل إعلامهم إياه أنهم رسل الله تعالى فظاهر، وإن كان بعد الإعلام فهو لتأنيسه وتأكيد ما أخبروه به.