واختار بعضهم الاستغراق أي لا يعلم من في السموات والأرض كل غيب إلا الله فإنه سبحانه يعلم كل غيب لأنه الأوفق بالمقام، واعترض بأنه يلزم أن يكون من أهل السموات والأرض من يعلم بعض الغيوب، وظاهر كلام كثير من الأجلة يأبى ذلك، ويؤيده ما أخرجه الشيخان. والترمذي. والنسائي. وأحمد. وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم يخبر الناس بما يكون في غد - وفي بعض الروايات - يعلم ما في غد فقد أعظم على الله تعالى الفرية والله تعالى يقول: * (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) *، وجوز بعضهم أن يكون منهم من يعلم بعض الغيوب، ففي بيان قواطع الإسلام تأليف العلامة ابن حجر بعد الرد على من أكفر من قيل له: أتعلم الغيب؟ فقال: نعم لأن فيما قاله تكذيب النص وهو قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) وقوله تعالى: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول) * (الجن: 26، 27) ما نصه: وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر، والذي اختص به تعالى إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار إليها بقوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب) * (الأنعام: 59) الآية، وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لا يكفر وهو محمل ما في الروضة، ومن ادعى علمه في سائر القضايا يكفر وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه فإن أطلق فلم يرد شيئا، فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر انتهى. ولعل الحق أن يقال: إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص لذاته أي بلا واسطة في ثبوته له، وهذا مما لا يعقل لأحد من أهل السموات والأرض لمكان الإمكان فيهم ذاتا وصفة وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة، ولعل في التعبير عن المستثنى منه بمن في السموات والأرض إشارة إلى علة الحكم، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ضرورة أنه من الواجب عز وجل أفاضه عليهم بوجه من وجوه الإفاضة فلا يقال: إنهم علموا الغيب بذلك المعنى ومن قاله كفر قطعا، وإنما يقال: إنهم أظهروا أو اطلعوا - بالبناء للفمعول - على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم، ويؤيد ما ذكر أنه لم يجىء في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلاف، وجاء الإظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول لا يقال: يجوز على هذا أن يقال: أعلم فلان الغيب بالبناء للمفعول أيضا على معنى أن الله تعالى أعلمه وعرفه ذلك بطريق من طرق الإعلام والتعريف، ومتى جاز هذا جاز أن يقال: علم فلان الغيب بقصد نسبة علمه الحاصل من إعلامه إليه لأنا نقول: لا كلام في جواز - أعلم - بالبناء للمفعول، وإنما الكلام في قولك: ومتى جاز هذا جاز أن يقال الخ، فنقول: إن أريد بالجواز في تالي الشرطية الجواز معنى أي الصحة من حيث المعنى فمسلم لكن ليس كل ما جاز معنى بهذا المعنى جاز شرعا استعماله، وإن أريد الجواز شرعا بمعنى عدم المنع من استعماله فهو ممنوع لما فيه من الإيهام والمصادمة لظواهر الآيات كآية * (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) * وغيرها؛ وقد سمعت عن الإمام الرباني قدس سره النوراني أنه حط كل الحط على من قال الله سبحانه: * (لا يعلم الغيب) * متأولا له بما تقدم لما فيه من المصادمة للنصوص القرآنية وغيرها، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه، وقد شنعوا أيضا على من قال: أكره الحق وأحب الفتنة وأفر من الرحمة مريدا بالحق الموت. وبالفتنة المال أو الولد. وبالرحمة المطر لما في ظاهره من الشناعة والبشاعة ما لا يخفى،
(١١)