العقول ويكفي ذلك أن الكرسي الذي نطق الكتاب العزيز بأنه وسع السموات والأرض بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، وهو عند الفلاسفة محدد الجهات وذهبوا إلى أنه جسم كرى خال عن الكواكب محيط بسائر الأفلاك محرك لها قسرا من المشرق إلى المغرب ولا يكاد يعلم مقدار ثخنه إلا الله تعالى، وفي الأخبار الصحيحة ما يأبى بظاهره بعض ذلك. وأيا ما كان فبين عظمه وعظم عرش بلقيس بون عظيم.
وقرأ ابن محيصن. وجماعة * (العظيم) * بالرفع فاحتمل أن يكون صفة للعرش مقطوعة بتقدير هو فتستوي القراءتان معنى. واحتمل أن يكون صفة للرب.
* (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) * * (قال) * استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعل سليمان عليه السلام عند قوله ذلك؟ فقيل قال: * (سننظر) * أي فيما ذكرته من النظر بمعنى التأمل والتفكر، والسين للتأكيد أي سنتعرف بالتجربة البتة * (أصدقت أم كنت من الكاذبين) * جملة معلق عنها الفعل للاستفهام. وكان مقتضى الظاهر أم كذبت وإيثار ما عليه النظم الكريم للإيذان بأن كذبه في هذه المادة يستلزم انتظامه في سلك الموسومين بالكذب الراسخين فيه فإن مساق هذه الأقاويل الملفقة مع ترتيب أنيق يستميل قلوب السامعين نحو قبولها من غير أن يكون لها مصداق أصلا لا سيما بين يدي نبي عظيم تخشى سطوته لا يكاد يصدر إلا عمن رسخت قدمه في الكذب والإفك وصار سجية له حتى لا يملك نفسه عنه في أي موطن كان، وزعم بعضهم أن ذاك لمراعاة الفاصلة وليس بشيء أصلا، وفي الآية على ما في الإكليل قبول الوالي عذر رعيته ودرء العقوبة عنهم وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به [بم وقوله تعالى:
* (اذهب بكتابى هاذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون) * * (إذهب بكتابي هاذا فألقه إليهم) * استئناف مبين لكيفية النظر الذي وعده عليه السلام بعدما كتب كتابه في ذلك المجلس أو بعده. فهذا إشارة إلى الحاضر وتخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة ولئلا يبقى له عذر أصلا، وفي الآية دليل على جواز إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام لإبلاغ الدعوة والدعاء إلى الإسلام. وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى. وقيصر. وغيرهما من ملوك العرب، وقرىء في السبعة * (فألقه) * بكسر الهاء وياء بعدها وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء، وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء وواو بعدها * (ثم تول عنهم) * أي تنح. وحمل على ذلك لأن التولي بالكلية ينافي قوله: * (فانظر ماذا يرجعون) * إلا أن يحمل على القلب كما زعم ابن زيد. وأبو علي وهو غير مناسب. وأمره عليه السلام إياه بالتنحي من باب تعليم الأدب مع الملوك كما روي عن وهب.
والنظر بمعنى التأمل والتفكر و * (ماذا) * إما كلمة استفهام في موضع المفعول ليرجعون ورجع تكون متعدية كما تكون لازمة أو مبتدأ وجملة * (يرجعون) * خبره. وإما أن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبره وجملة * (يرجعون) * صلة الموصول والعائد محذوف. وأيا ما كان فالجملة معلق عنها فعل القلب فمحلها النصب على إسقاط الخافض، وقيل: النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى: * (انظرونا نقتبس من نوركم) * (الحديد: 13) فلا تعليق بل كلمة * (ماذا) * موصول في موضع المفعول كذا قيل، والظاهر أنه بمعنى التأمل وأن المراد فتأمل وتعرف ماذا يرد بعضهم على بعض من القول. وهذا ظاهر في أن الله تعالى أعطى الهدهد قوة يفهم بها ما يسمعه من