تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٩ - الصفحة ١٤٣
لهم ويوصلونه إلى الكهنة فيخلطون به من الذكب ما يخلطون، فيحث حكم عليهم بالعزل عن السمع أريد بالسمع السمع الكامل المعتد به وحيث حكم عليهم بإلقاء السمع أريد بالسمع السمع في الجملة وأدنى ما يصدق عليه أنه سمع، والظاهر أن ما حصل لابن الصياد كان من هذا السمع ولا يكاد يعدل عن ذلك، ويقال: إنه كان من الضرب الثاني للكهانة إلا إن ثبت أحد الشقوق الثلاثة وفي ثبوت ذلك كلام، نعم قوله صلى الله عليه وسلم " خبأت " ظاهر في أن هناك ما يخبأ في كف أو كم أو نحوهما والآية ما لم تكتب لا تكون كذلك، ولهذا احتاج القائلون بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أضمر له الآية في قلبه إلى تأويل خبأت بأضمرت. ويمكن أن يقال على بعد: إن الشياطين قد منعوا بعد البعثة عن السمع مطلقا بالشهب المحرقة لهم، وارجاع ضمير * (يلقون) * إلى الشياطين ضعيف لأن المقام في بيان من يتنزلون عليه لا بيان حالهم أو إلقاء سمعهم بمعنى إصغائهم إلى الملأ الأعلى و * (أكثرهم) * بمعنى كلهم والتعبير به للإشارة إلى أن الأكثرية المذكورة كافية في المقصود. والمراد يصغون ليسمعوا فلا يسمعون إلا أنه أقيم وأكثرهم كاذبون مقام لا يسمعون أو إلقاء السمع بمعنى إلقاء ما يسمعه الناس من الأفاكين إليهم ولا يلزم من ذلك أن يكونوا سمعوه من المائكة عليهم السلام إذ يجوز أن يكونوا اخترعوه من عند أنفسهم ظنا وتخمينا وألقوه إلى أوليائهم ولا يبعد صدقهم في بعضه. والأمر في تسميته مسموعا هين وما ورد في حديث الصحيحين وابن مردويه محمول على ما كان قبل البعثة، ويقال: إنهم كانوا يسمعون في الجملة وقد يحمل ما في الآية على ذلك وإليه ذهب بعضهم، وحمل خطف الكلمة فيه على حدسها بواسطة بعض الأوضاع الفلكية ونحو ذلك ليجوز اعتبار كونه بعد البعثة مما لا أظن أحدا يرتضيه، وليس في قصة ابن الصياد ما هو نص في أن ما قاله كان عن سمع من الملائكة عليهم السلام ألقاه الشيطان إليه. وكأني بك تستبعد تحدث الملائكة عليهم السلام في السماء بما أضمره صلى الله عليه وسلم وصعود الشياطين حين السؤال من غير ريث واستراقهم ونزولهم في أسرع وقت بما أجاب به ابن الصياد وما هو الأضرب من ضروب الكهانة.
وتحقيق أمرها على ما ذكره الفاضل عبد الرحمن بن خلدون أن للنفس الإنسانية استعدادا للإنسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الاتقياء بما فطروا عليه من ذلك ولا يحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور ويعطي التقسيم العقلي إن ههنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل وهو صنف من البشر مفظور على أن تتحرك قوته العقلية حركته الفكرية بالإرادة عندما يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه فيتشبث لأعمال الحليلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوان وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان ويديم ذلك الإحساس والتخيل مستعينا به في ذلك الإنسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها الجزئيات أكثر من إدراكها الكليات وتكون مستغلة بها غافلة عن الكليات ولذلك كثيرا ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة وهي لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة
(١٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 138 139 140 141 142 143 144 145 146 147 148 ... » »»