تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٨ - الصفحة ٢٠٤
من أعدائهم في الدين * (أمنا) * لا يقادر قدره، وقيل: الخوف في الدنيا من عذاب الآخرة والأمن في الآخرة ورجح بأن الكلام عليه أبعد من احتمال التأكيد بوجه من الوجوه بخلافه على الأول.
وأنت تعلم أن الأول أوفق بالمقام والأخبار الواردة في سبب النزول تقتضيه وأمر احتمال التأكيد سهل.
* (يعبدونني) * جوز أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال إما من * (الذين) * الأول لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد لأن ما في حيز الصلة من الإيمان وعمل الصالحات بصيغة الماضي لما دل على أصل الاتصاف به جيء بما ذكر حالا بصيغة المضارع الدال على الاستمرار التجددي وإما من الضمير العائد عليه في * (ليستخلفنهم) * أو في * (ليبدلنهم) *، وجوز أن تكون مستأنفة إما لمجرد الثناء على أولئك المؤمنين على معنى هم يعبدونني وإما لبيان علة الاستخلاف وما انتظم معه في سلك الوعد، وقوله تعالى: * (لا يشركون بي شيئا) * حال من الواو في * (يعبدونني) * أو من * (الذين) * أو بدل من الحال أو استئناف. ونصب * (شيئا) * على أنه مفعول به أي شيئا مما يشرك به أو مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك. ومعنى العبادة وعدم الإشراك ظاهر.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله سبحانه: * (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) * لا يخافون أحدا غيري، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد نحوه. ولعلهما أراد بذلك تفسير * (لا يشركون بي شيئا) * وكأنهما عدا خوف غير الله تعالى نوعا من الإشراك، واختير على هذا حالية الجملة من الواو كأنه قيل: يعبدونني غير خائفين أحدا غيري، وجوز أن يكونا قد أرادا بيان المراد بمجموع * (يعبدونني لا يشركون) * الخ وكأنهما ادعيا أن عدم خوف أحد غيره سبحانه من لوازم العبادة والتوحيد وأن جملة * (يعبدونني) * الخ استئناف لبيان ما يصلون إليه من الأمن كأنه قيل: يأمنون إلى حيث لا يخافون أحدا غير الله تعالى ولا يخفي ما في التعبير بضمير المتكلم وحده في * (يعبدونني. ولا بشركون بي) * دون ضمير الغائب ودون ضمير العظمة من اللطافة.
* (ومن كفر) * أي ومن ارتد من المؤمنين * (بعد ذالك) * أي بعد حصول الموعود به * (فأولئك) * المرتدون البعداء عن الحق * (هم الف‍اسقون) * أي الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان إذ لا عذر لهم حينئذ ولا كجناح بعوضة، وقيل: كفر من الكفران لا من الكفر مقابل الإيمان وروي ذلك عن أبي العالية وكما لهم في الفسق لعظم النعمة التي كفروها، وقيل: ذلك إشارة إلى الوعد السابق نفسه، وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى ومن اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الاهتمام بتحصيلها فأولئك هم الكاملون في الفسق، وكون المراد بكفر ما ذكر أنسب بالمقام من كون المراد به ارتد أو كفر النعمة انتهى. والأولى عندي ما تقدم فإنه الظاهر، وفي الكلام عليه تعظيم لقدر الموعود به من حيث أنه لا يبقى بعد حصوله عذر لمن يرتد، وقوة مناسبته للمقام لا تخفى. وهو ظاهر قول حذيفة رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال: كنت جالسا مع حذيفة. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما فقال حذيفة: ذهب النفاق انما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات) * (النور: 55) إلى آخر
(٢٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 199 200 201 202 203 204 205 206 207 208 209 ... » »»