تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٨ - الصفحة ٢٠٣
الأغلب في الاستعمال الاطلاق الأول فلا تغفل، وإذا كانت من بيانية فالمعنى وعد الله الذين آمنوا الذين هم أنتم * (ليستخلفنهم في الأرض) * أي ليجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم أو خلفاء من الذين كانوا يخافونهم من الكفرة بأن ينصرهم عليهم ويورثهم أرضهم، والمراد بالأرض على ما قيل جزيرة العرب، وقيل مأواه عليه الصلاة والسلام من مشارق الأرض ومغاربها ففي الصحيح " زويت لي الأرض فاريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها " واللام واقعة في جواب القسم المحذوف ومفعول وعد الثاني محذوف دل عليه الجواب أي وعد الله الذين آمنوا استخلافهم وأقسم لستخلفنهم، ويجوز أن ينزل وعده تعالى لتحقق انجازه لا محالة منزلة القسم وإليه ذهب الزجاج ويكون * (ليستخلفنهم) * منزل منزلة المفعول فلا حذف.
وما في قوله تعالى: * (كما استخلف) * مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر محذوف أي ليستخلفنهم استخلافاف كائنا كاستخلافه * (الذين من قبلهم) * وهم بنوا اسرائيل استخلفهم الله عز وجل في الشام بعد إهلاك الجبابرة وكذا في مصر على ما قيل من أنها صارت تحت تصرفهم بعد هلاك فرعون وإن لم يعودوا إليها أو هم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة الذين أسكنهم الله تعالى في الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين.
وقرىء * (كما استخلف) * بالبناء للمفعول فيكون التقدير ليستخلفنهم في الأرض فيستخلفون فيها استخلافاف أي مستخلفية كائنة كمستخلفية الذين من قبلهم * (وليمكنن لهم دينهم) * عطف على * (ليستخلفنهم) * والكلام فيه كالكلام فيه، وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أنه كالأثر للاستخلاف المذكور. وقيل: لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصدير المواعيد بها في الاستمالة أدخل، والتمكين في الأصل جعل الشيء في مكان ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت والمعنى ليجعلن دينهم ثابتا مقررا بأن يعلى سبحانه شأنه ويقوى بتأييده تعالى أركانه ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره ويستنهضون الرجال والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره فيكونون بحيث ييأسون من التجمع لتفريقهم عنه ليذهب من البين ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثرا بعد عين.
وقيل: المعنى ليجعله مقررا ثابتاف بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يدرون، وأصل التمكين جعل الشيء مكاناف لآخر والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الاستخلاف في الأرض انتهى، وفيه بحث، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه أعني قوله تعالى: * (الذي ارتضى لهم) * وتأخيره عن الوصف من الاخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى، وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه ما فيه * (وليبدلنهم) * بالتشديد، وقرأ ابن كثير. وأبو بكر. والحسن. وابن محيصن بالتخفيف من الإبدال، وأخرج ذلك عبد بن حميد عن عاصم وهو عطم على * (ليستخلفنهم أو ليمكنن) * * (من بعد خوفهم) * بمقتضى البشرية في الدنيا
(٢٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 198 199 200 201 202 203 204 205 206 207 208 ... » »»