تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٨ - الصفحة ١٨٢
هذا بالدنيا لقوله تعالى: * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) * (النور: 40) فإنه ظاهر في الهداية والتوفيق المخصوص بها، والأول بالآخرة لقوله تعالى: * (ووجد) * الخ وقدم أحوال الآخرة التي هي أعظم وأهم لاتصال ذلك بما يتعلق بها من قوله سبحانه: * (ليجزيهم) * الخ ثم ذكر أحوال الدنيا تتميما لها.
وجوز أن يعكس ذلك فيكون المراد من الأول تشبيه أعمالهم بالسراب في الدنيا حال الموت، ومن الثاني تشبيهها بالظلمات في القيامة كما في الحديث " الظلم ظلمات يوم القيامة " ويكون ذلك ترقيا مناسبا للترتيب الوقوعي وليس بذلك لما سمعت، وقيل للتنويع، وذلك أنه أثر ما مثلت أعمالهم التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد ويفتخرون بها في كل واد وناد بما ذكر من حال السراب مثلت أعمالهم القبيحة التي ليس فيها شائبة خيرية يغتر بها المغترون بالظلمات المذكورة، وزعم الجرجاني أن المراد هنا تشبيه كفرهم فقط وهو كما ترى. والظاهر على التنويع أن يراد من الأعمال في قوله تعالى: * (أعمالهم) * ما يشمل النوعين.
واعترض بأنه يأبى ذلك قوله تعالى: * (ووجد الله عنهد) * بناء على دخوله في التشبيه لأن أعمالهم الصالحة وإن سلم أنها لا تنفع مع الكفر لا وخامة في عاقبتها كما يؤذن به قوله سبحانه: * (ووجد) * الخ. وأجيب بأنه ليس فيه ما يدل على أن سبب العقاب الأعمال الصالحة بل وجد أن العقاب بسبب قبائح أعمالهم لكنها ذكرت جميعها لبيان أن بعضها جعل هباء منثور أو بعضها معاقب به، وجوز أن تكون للتخيير في التشبيه لمشابهة أعمالهم الحسنة أو مطلقا السراب لكونها لاغية لا منفعة فيها، والظلمات المذكورة لكونها خالية عن نور الحق، واختاره الكرماني.
واعترض بأن الرضى كغيره ذكر أنها لا تكون للتخيير إلا في الطلب. وأجيب بأنه وإن اشتهر ذلك فقد ذهب كثير إلى عدم اختصاصه به كابن مالك. والزمخشري ووقوعه في التشبيه كثير، وأيا ما كان فليس في الكلام مضاف محذوف. وقال أبو علي الفارسي: فيه مضاف محذوف والتقدير أو كذي ظلمات، ودل عليه ما يأتي من قوله سبحانه: * (إذا أخرج يده) * والتشبيه عنده هنا يحتمل أن يكون للأعمال على نمط التشبيه السابق ويقدر أو كأعمال ذي ظلمات. ويحتمل أن يكون للكفرة ويقدر أو هم كذي ظلمات والكل خلاف الظاهر، وأمر الضمير سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
وقرأ سفيان بن حسين * (أو كظلمات) * بفتح الواو، ووجه ذلكفي البحر بأنه جعلها واو عطف تقدمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام. وقيل هي * (أو) * التي في قراءة الجمهور وفتحت الواو للمجاورة كما كسرت الدال لها في قوله تعالى: * (الحمد لله) * على بعض القراآت * (في بحر لجي) * أي عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر. وقيل اللجة وهي أيضا معظمه وهو صفة * (بحر) * وكذا جملة قوله تعالى * (يغشاه) * أي يغطي ذلك البحر ويستره بالكلية * (موج) * وقدمت الأولى لافرادها. وقيل الجملة صفة ذي المقدر والضمير راجع إليه، وقد علمت حال ذلك التقدير وقوله تعالى: * (من فوقه موج) * جملة من بمتدأ وخبر محلها الرفع على أنها صفة لموج أو الصفة الجار والمجرور وما بعده فاعل له لاعتماده على الموصوف. والمراد يغشاه أمواج متراكمة متراكبة بعضها على بعض، وقوله تعالى: * (من فوقه سحاب) * صفة لموج الثاني على أحد الوجهين المذكورين أي من فوق ذلك الموج سحاب ظلماني ستر أضواء النجوم، وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 ... » »»