تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٧ - الصفحة ٦١
بإقامة البرهان على ما أدعاه، وجعله الطيبي إضرابا عن ذلك أيضا قال: وهذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وكان من الظاهر أن يجيبهم عليه السلام بقوله بل أنا من المحقين ولست من اللاعبين فجاء بقوله: * (بل ربكم) * الآية لينبه به على أن إطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لا حاجة فيه لوضوحه إلى الدليل ولكن انظروا إلى هذه العظيمة وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم ورازقكم ومالك العالمين والذي فطر ما أنتم لها عاكفون وتشتغلون بعبادتها دونه فأي باطل أظهر من ذلك وأي ضلال أبين منه.
وقوله: * (وأنا على ذلكم من الشاهدين) * تذييل للجواب بما هو مقابل لقولهم * (أم أنت من اللاعبين) * من حيث الأسلوب وهو الكناية ومن حيث التركيب وهو بناء الخبر على الضمير كأنه قال: لست من اللاعبين في الدعاوي بل من العالمين فيها بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي نقطع به الدعاوي اه‍، ولا يخفى أنه يمكن إجراء هذا على احتمال كون أم متصلة فافهم وتأمل ليظهر لك أي التوجيهات لهذا الإضراب أولى.
* (وت الله لأكيدن أصن‍امكم بعد أن تولوا مدبرين) *.
* (وتالله لأكيدن أصنامكم) * أي لأجتهدن في كسرها، وأصل الكيد الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهر خلافه وهو يستلزم الاجتهاد فتجوز به عنه، وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل ليختاطوا في الحفظ فيكون الظفر بالمطلوب أتم في التبكيت، وكان هذا منه عليه السلام عزما على الإرشاد إلى ضلالهم بنوع آخر، ولا يأباه ما روى عن قتادة أنه قال: نرى أنه عليه السلام قال ذلك من حيث لا يسمعون وقيل سمعه رجل واحد منهم، وقيل: قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين: وقيل إثنين وسبعين.
وقرأ معاذ بن جبل. وأحمد بن حنبل * (بالله) * بالباء ثانية الحروف وهي أصل حروف القسم إذ تدخل على الظاهر والمضمر ويصرح بفعل القسم معها ويحذف والتاء بدل من الواو كما في تجاه والواو قائمة مقام الباء للمناسبة بينهما من حيث كونهما شفويتين ومن حيث أن الواو تفيد معنى قريبا من معنى الإلصاق على ما ذكره كثير من النحاة.
وتعقبه في " البحر " بأنه لا يقوم على ذلك دليل، وقد رده السهيلي، والذي يقتضيه النظر إنه ليس شيء من هذه الأحرف أصلا لآخر، وفرق بعضهم بين الباء والتاء بأن في التاء المثناة زيادة معنى وهو التعجب، وكان التعجب هنا من إقدامه عليه السلام على أمر فيه مخاطرة. ونصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم، وفرق آخرون بينهما استعمالا بأن التاء لا تستعمل إلا مع اسم الله الجليل أو مع رب مضافا إلى اللكعبة على قلة * (بعد أن تولوا مدبرين) * من عبادتها إلى عيدكم. وقرأ عيسى بن عمر * (تولوا) * من التولي بحذف إحدى التاءين وهي الثانية عند البصريين والأولى عند هشام، ويعضد هذه القراءة قوله تعالى: * (فتولوا عنه مدبرين) * والفاء في [بم قوله تعالى:
* (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) *.
* (فجعلهم) * فصيحة أي فولوا فأتى إبراهيم عليه السلام الأصنام فجعلهم * (جذاذا) * أي قطعا فعال بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع، قال الشاعر: بنو المهلب جذ الله دابرهم * أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف فهو كالحطام من الحطم الذي هو الكسر، وقرأ الكسائي. وابن محيصن. وابن مقسم. وأبو حيوة. وحميد
(٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 ... » »»