أن زكريا عليه السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى: * (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى) * (آل عمران: 39) وأما مريم عليها السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله: * (لأهب لك غلاما زكيا) * (مريم: 19) وقوله تعالى: * (فنفخنا فيه من روحنا) * وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات، وأيضا يخدش قوله: ولو كانت تمام المقصود لابتدأوا بها ما في قصة مريم عليها السلام قالت: * (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) *.
فيجوز أن يكون قولهم: * (لا توجل) * تمهيدا للبشارة. وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها السلام لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلا عاجلته بالاستعاذة فلم تدعه يبتدىء بالبشارة بخلاف ما نحن فيه، وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك والله تعالى يجري الأمور للناس على ما اعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه السلام في ذلك وإن قيل: المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه السلام كقولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين، وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوي ذكره بأنه بعيد وتوسيط * (قال) * والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه، أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالا إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام، وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى؟، وأما الثالث فلجواز أن يقال: إنه عليه السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى إلا بعد البشارة ولم يكن يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم، وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال: إنه لا يحسن أيضا عند قوله: * (إنا منكم وجلون) * (الحجر: 52) على تقدير أن يكون علم عليه السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر.
* (قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين) * .
* (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) * هم قوم لوط عليه السلام، وجىء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذما لهم.
* (إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين) * .
* (إلا آل لوط) * قال الزمخشري: يجوز أن يكون استثناء من قوم بملاحظة الصفة فيكون الاستثناء منقطعا لأنهم ليسوا قوما مجرمين، واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الاستثناء ليس مما يقتضيه المقام، ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الاتصال على تقدير آخر، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستتر في * (مجرمين) * فيكون الاستثناء متصلا لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له، وقوله تعالى: * (إنا لمنجوهم أجمعين) * خبر الأبناء على ما سمعت سابقا، وعن الرضى أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا بمعنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها بمعنى لكن قالوا إنها الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حمارا أي لكن حمارا لم يجىء قالوا وقد يجىء خبرها ظاهرا نحو قوله تعالى: * (الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم) * (يونس: 98) وقال الكوفيون إلا في ذلك بمعنى سوى والنصب بعدها في الانفصال كالنصب في الاتصال، وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفيا وإثباتا كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول: لي عليك ديناران