تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٤ - الصفحة ١٨٦
استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله تعالى وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه فبرأ " فليس صريحا في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علمه الله سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض الاستطلاق قد يشفي بالعسل. ففي طبقات الأطباء أنه إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه علم أن في معدة المريض رطوبات لزجة غليظة قد أزلقت معدته فكلما مر به شيء من الأدوية القابضة لم يؤثر فيها والرطوبات باقية على حالها والأطعمة تزلق عنها فيبقى الإسهال فلما تناول العسل جلا تلك الرطوبات وأحدرها فكثر الإسهال أولا بخروجها وتوالى ذلك حتى نفذت الرطوبة بأسرها فانقطع إسهاله وبرىء، فقوله صلى الله عليه وسلم: " صدق الله تعالى " يعني بالعلم الذي عرف نبيه عليه الصلاة والسلام به، وقوله: " كذب بطن أخيك " يعني ما كان يظهر من بطنه من الإسهال وكثرته بطريق العرض وليس هو بإسهال ومرض حقيقي فكان بطنه كاذبا اه‍. وقال بعضهم: المراد - بصدق الله تعالى - صدق سبحانه في أن العسل فيه الشفاء، وقوله عليه الصلاة والسلام: " كذب بطن أخيك " من المشاكلة الضدية كقولهم: من طالت لحيته تكوسج عقله، وهو على الأول استعارة مبنية على تشبيه البطن بالكاذب في كون ما ظهر من إسهالها ليس بأمر حقيقي وإنما هو لما عرض لها، وعلى ذلك قول الأطباء: زحير كاذب وزحير صادق. وأنكر بعضهم هذا النوع من المشاكلة وقال: إنها ليست معروفة وإنه إنما عبر به لأن بطنه كأنه كذب قول الله تعالى بلسان حاله وهو ناشىء من قلة الاطلاع. وقد وقع نظير هذه القصة في زمن المأمون، وذلك أن ثمامة العبسي وكان من خواصه مرض بالإسهال فكان يقوم في اليوم والليلة مائة مرة وعجز الأطباء عن علاجه فعالجه يزيد بن يوحنا طبيب المأمون بالمسهل أيضا فبرىء وكان قد ظن الأطباء أنه يموت بسبب ذلك ولا يبقى لغده، وذكر الطبيب حين سأله المأمون عن وجه الحكمة فيما فعل فذكر أنه كان في جوف الرجل كيموس فاسد فلا يدخله غذاء ولا دواء إلا أفسده فعلمت أنه لا علاج له إلا قلع ذلك بالإسهال، ومنه يعلم أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان من معجزاته الدالة على علمه بدقائق الطب من غير تعليم، وكذا يعلم أن ما طعن به بعض الملحدين ومن في قلبه مرض من أنه كيف يداوي الإسهال بالعسل وهو مسهل باتفاق الأطباء ناشىء عن الجهل بالدقائق وعدم الوقوف على الحقائق. ونقل عن مجاهد. والضحاك. والفراء. وابن كيسان وهو رواية عن ابن عباس. والحسن أن ضمير * (فيه) * للقرآن والمراد أن في القرآن شفاء لأمراض الجهل والشرك وهدى ورحمة، واستحسن ذلك ابن النحاس.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر، ورجوع الضمير للكتاب في قوله سبحانه: * (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) * مما لا يكاد يقوله أمثال هؤلاء الكرام والعلماء الأعلام. نعم كون القرآن شفاء مما لا كلام فيه، وقد أخرج الطبراني. وغيره عن ابن مسعود " عليكم بالشفاءين العسل والقرآن " هذا.
وقد سبحانه الإخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعا وأعظم شأنا وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده، ثم ذكر اللبن لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده، وقد يستغني بشربه عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب الماء عدة من السنين مكتفيا بشرب اللبن، وسمعنا نحو ذلك عن بعض رؤساء الأعراب، وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره صلى الله عليه وسلم حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل، ثم الخمر لأنها أقرب إلى الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد
(١٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 181 182 183 184 185 186 187 188 189 190 191 ... » »»