البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اه، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدا، وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر غير مرة من التشويق، وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمدادا للتشويق وتقوية له.
* (ورزقكم من الطيبات) * أي اللذائذ وهو معناها اللغوي، وجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال. وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر. وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام، وأيضا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه، و * (من) * للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان، وقيل: المراد بها ما أتى من غير نصب، وقيل: الغنائم، وليس بشيء.
* (أفبالباطل) * وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: * (يؤمنون) * وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن * (وبنعمت الله) * المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان * (هم يكفرون) * أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم، وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم. والآية على هذا ظاهرة التعلق بقوله سبحانه: * (ورزقكم من الطيبات) * فقط دون ما قبله أيضا والظاهر تعلقها بهما، ومن ذلك يظهر حال ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا سيما وقد حصروا، وأيضا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في " الكشف "، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدا وتخصيصا، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفا عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء * (يكفرون) * على هم المفيد لتقوى الحكم، وجعل كلام الزمخشري مشيرا إلى ذلك كله فتدبر. وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد، والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفا.
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالباطل كان إيمانهم بغيره بمنزلة