تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٤ - الصفحة ١٨٣
من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر للتخلية والإباحة، وأيا ما - فمن - للتعيض. وقال الإمام: رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد تكون تلك الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل الترنجين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض البلدان، وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى النحل حتى تلتقطه من الأزهار أوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت به إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسه غذاءها فالمجتمع من ذلك هو العسل، ومن الناس من يقول: إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ثم تقيئه، والقول الأول أقرب إلى العقرب وأشد مناسبة للاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأسجار والأزهار فكذا ههنا، وأيضا فنحن نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل حتى إنا إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا لها بقية منه لغذائها، وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية اه‍. وأنت تعلم أن ظاهر * (كلي) * يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييدا له من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة فقد ذكر بعض أجلة الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل. نعم لتلك المشابهة يطلق عليه اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لا طل النداء كما زعم وإن قالوا: هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول بفارس ويجمع كالمن، ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنبيط أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكن أغلظ، والأمر في مشاهدة تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائميا، وينقل عن بعض الطيور التي تكمن شتاء التغذي بالرجيع. ويؤيد المشهور ما روى عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه في تحقير الدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل، وجاء عنه كرم الله تعالى وجهه أيضا أما العسل فونيم ذباب، وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال المعري: والنحل يجني المر من زهر الربا * فيعود شهدا في طريق رضا به وقال الحريري: تقول هذا محاج النحل تمدحه * وإن ترد ذمه قيء الزنابير وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيرا حملها لأوراق الأزهار بفمها إلى بيوتها وهو ما يستأنس به للآكل، وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضا ما يؤيده، * (فاسلكي سبل ربك) * أي طرقه سبحانه راجعة إلى بيوتك بعد الأكل، فالمراد بالسبل مسالكها في العود، ويحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة للمرعى ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها، وفي إضافة السبل إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيىء لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها، وقيل: المراد من السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه، وحينئذ فمعنى * (كلي) * اقصدي الأكل، وقيل: السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل، وقيل: مجاز عن طرق إحالة الغذاء عسلا، و * (اسلكي) * متعد من
(١٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 ... » »»