منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف، وهو قريب من الأول. وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته ومجازه وفي صحته مقال، وقيل: المراد باليمين يمين الواقف مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل: يتفيؤ ظلاله عن الجنوب إلى الشمال وعن الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة شمالي وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين، وهو كما ترى، ونقل أبو حيان عن أستاذه الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى مه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو في العشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان، هذا من جهة المعنى وأما منجهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق * (سجدا) * المجاور له شمالا كما أفرد الأول ليطابق ضمير * (ظلاله) * المجاور له يمينا، ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع أيضا، فحصل في الآية مطلقة اللفظ للمعنى وملاحظتهما معا وتلك الغاية في الإعجاز، ويخطر لي وجه آخر في الأفراد والجمع مبني على أن المراد باليمين جهة المشرق وبالشمال جهة المغرب، وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة الثانية مغربه ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما أفرد * (النور) * في كل القرآن، وجمع يدل على الجهة الثانية كما جمع الظلمة كذلك وإفراد النور وجمع الظلمة تقدم الكلام فيهما، وقد يقال: إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلا عن أن يقع ضوؤها على ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات، ولا يعكر على هذا أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيرا ما يرتكب أمر لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر، وآخر أيضا وهوأنه لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبته لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو الله تعالى ولا كذلك جهة المغرب، ولايناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك و * (كلتا يديه يمين) * ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة الخلق إليه تعالى، وآخر أيضا وهو أن الظل الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة المغرب يتعلق به ذلك، فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط الماء، ووقت العصر بصيرورته مثل الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة، ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس، وما ألطف وقوع * (سجدا) * بعد * (الشمائل) * على هذا؛ وآخر أيضا وهو أوفق بباب الإشارة وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى الفتاح، وبعد لمسلك الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك.
وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه، ثم قال: فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس؟ قلنا: قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته فلا بد أن يكون تحركه من غيره ولا بد من الاستناد بالآخرة إلى واجب الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا التقدير.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص، نعم في كون ذلك مستندا إليه تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف، ومذهب السلف غير خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر منك، ثم الظاهر أن المراد بالظلال الظلال المبسوطة وتسمى المستوية، ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها أيضا تتفيؤ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل، وقرأ أبو عمرو. وعيسى. ويعقوب * (تتفيؤ) * بالتاء على التأنيث، وأمر التأنيث والتذكير في