تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٤ - الصفحة ١٥٨
ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهم السلام فكيون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض، والمراد بالملائكة عليهم السلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولايراد بالدابة ما يشملهم، و * (ما) * إذا قلنا: إنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعري فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب، وأما إن قلنا أن وضعها لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أو لا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب، وفي " أنوار التنزيل " أن * (ما) * استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا، وفي " الكشاف " أنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من، وحاصله على ما في " الكشف " أن من للعقلاء والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما وأراد أن لا دليل في اللفظ، وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى.
وقيل بناء على أن ما مختصه بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء: إن الاتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من الاتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم * (وهم) * أي الملائكة علو شأنهم * (لا يستكبرون) * عن عبادته تعالى شأنه والسجود له، وتقدير الضمير ليس للقصر، والسين ليست للطلب وقيل: له على معنى لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله والاتصاف به. وإذا قلنا: إن صيغة المضارع لاستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي. والجملة إما حال من فاعل * (يسجد) * مسندا إلى الملائكة أو استئناف للأخبار عنهم بذلك، وإنما لم يجعل الضمير - لما - لاختصاصه بأولى العلم وليس المقام التغليب، وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه: * (يخافون ربهم) * وممن صرح بعود الضمير فيه على * (ما) * أبو سليمان الدمشقي، وقال أبو حيان: أنه الظاهر، وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم.
* (يخ‍افون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * .
* (من فوقهم) * إما متعلق - بيخافون - وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالا من * (ربهم) * أي كائنا من فوقهم، ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، ومذهب السلف قد أسلفناه لك وأظنه على طكر منك.
والجملة حال من الضمير في * (لا يستكبرون) * وجوز أن تكون بيانا لنفي الاستكبار وتقريرا له لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته، واختاره ابن المنير وقال: إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الاستكبار وليدل على ثبوت هذه الصفة أيضا على الإطلاق، ولا بد أن يقال على تقدير الحالية: أنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في أفصحه على الصحيح، وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم.
* (ويفعلون ما يؤمرون) * أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبينا للمفهول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه، واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء، أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر، وأما على الخوف فهوأظهر من أن يخفى، وأما على الرجاء فلاستلزام الخوف له على ما قيل، وقيل: إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم
(١٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 153 154 155 156 157 158 159 160 161 162 163 ... » »»