تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٢٢٨
والنفسانية والجسمانية ما لا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدىء الأول عز شأنه وجل فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي.
وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود وارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده، نعم غير متناهية حقيقة لا ادعاء، وكذا الحال في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداء وبقاء، وكذا في كمالاته التابعة لوجوده اه‍، ويتراءى منه أنه قد ترك الإمام في تحقيق هذا المقام وراءه وأنه لو سمع ذلك لاقتدى به في ذكره ولعد من النعم اقتداءه وقريب منه ما يقال في بيان عدم تناهي النعم: إن الوجود نعمة نكذا كل ما يتبعه من الكمالات، وذلك موقوف على وجوده تعالى في الأزمنة الموهومة الغير المتناهية، وتحقق ما يتوقف عليه وجود النعمة نعمة فتحققه سبحانه في كل آن من تلك الآنات نعمة، فالنعم غير متناهية، ولك أن تقول في بيان ذلك: إنه ما من إنسان إلا وقد دفع الله تعالى عنه من البلايا ما لا يحيط به نطاق الحصر لأن البلايا الداخلة تحت حيطة الإمكان غير متناهية، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية، ومما يوضح عدم تناهي البلايا الممكنة أن أهل النار المخلدين فيها لا زال عذابهم بازدياد كما يرشد إليه قوله تعالى: * (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) * (النبأ: 30) وقد ذكر غير واحد في ذلك أنهم كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد من ذلك، فيكون كل مرتبة منه متناهيا في الشدة وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة وعلى هذا نعم الله تعالى على المبتلي أيضا لا تحصى.
وفي رواية ابن أبي الدنيا. والبيهقي عن ابن مسعود قال: إن لله تعالى على أهل النار منة فلو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم. ثم الظاهر أن المراد بالنعمة معناها اللغوي - أعني الأمر الملائم - لا المعنى الشرعي - أعني الملائم الذي تحمد عاقبته - إذ لا يتأتى عليه عموم الخطاب، ولا يبعد إطلاق النعمة بذلك المعنى على نحو رفع الموانع وتحقق العلل والشرائط حسبما ذكر سابقا، وظاهر ما تقدم يقتضي أن النعم في حد ذاتها غير محصورة والآية ظاهرة في أن الإنسان لا يحصرها بالعد وفرق بين الأمرين فتدبر. وبالجملة ليس للعبد إلا العجز عن الوقوف على نهاية نعمه سبحانه وتعالى وكذا العجز عن شكر ذلك، وما أحسن ما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: من لم يعرف نعمة الله تعالى عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.
وأخرج البيهقي في الشعب. وغيره عن سليمان التيمي قال: إن الله تعالى أنعم على العباد على قدره سبحانه وكلفهم الشكر على قدرهم، وعن طلق بن حبيب قال: إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله سبحانه أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين. وأفضل نعمه جل شأنه على عباده على ما روي عن سفيان بن عيينة أن عرفهم أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي الدنيا. وغيره عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم أن داود عليه السلام قال: رب أخبرني ما أدنى نعمتك على؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود
(٢٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 223 224 225 226 227 228 229 230 231 232 233 ... » »»