تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٣ - الصفحة ٢٢٩
تنفس فتنفس فقال تبارك وتعالى: هذا أدنى نعمتي عليك. واشتهر أن أول النعم المقصودة لذاتها الوجود وأنه معدن كل كمال كما أن العدم معدن كل نقص. ويدل على أنه نعمة لا يكاد يقاس بها غيرها عند كثير من الناس أن الإنسان منهم يفدي نفسه بملك الدنيا لو كان بيده وعلم أن الفداء ممكن إذا ألم به الألم وتحقق العدم.
ومن العجيب أن أبا علي الشبلي البغدادي، وقيل: ابن سيناء لم يعد وجود الإنسان نعمة عليه فقد قال من أبيات: ودهر ينثر الأعمار نثرا * كما للغصن بالورق انتثار ودنيا كلما وضعت جنينا * غذاه من نوائبها ظؤار إلى أن قال: نعاقب في الظهور وما ولدنا * ويذبح في حشا الأم الحوار وننتظر البلايا والرزايا * وبعد فللوعيد لنا انتظار ونخرج كارهين كما دخلنا خروج الضب أخرجه الوجار * فماذا الامتنان على وجود * لغير الموجدين به الخيار فكانت أنعما لو أن كونا * نخير قبله أو نستشار فهذا الداء ليس له دواء * وهذا الكسر ليس له انجبار إلى آخر ما قال، ولعمري لقد غمط نعمة الله تعالى عليه وظلمها * (إن الإنسان لظلوم) * يظلم النعمة بإغفال شكرها بالكلية أو بوضعه في غير موضعه أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان بترك الشكر * (كف‍ار) * شديد الكفران والجحود، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع، والأول أنسب بما قبله، وأل في الإنسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم وأخيه بعض من وجدا من إفراده فيه ويدخل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله تعالى كفرا، والظاهر أن الجملة استئناف بياني وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: لم لم يراعوا حقها؟ أو لم حرمها بعضهم؟ وقيل: إنها تعليل لعدم تناهي النعم ولذا أتى بصيغتي المبالغة فيها وهو كما ترى هذا، وفي النحل (18) * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) * وفرق أبو حيان بين الختمين بأنه هنا لما تقدم قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) * (إبراهيم: 28) وبعده * (وجعلوا لله أندادا) * (إبراهيم: 30) فكان ذلك نصا على ما فعلوا من القبائح من الظلم والكفران ناسب أن يختم بذم من وقع ذلك منه فختمت الآية بقوله سبحانه: * (إن الإنسان لظلوم كفار) * (إبراهيم؛ 34) وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات وأطنب فيها وقال جل شأنه: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * (النحل: 17) أي من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ذكر من تفضلاته تعالى اتصافه بالغفران والرحمة تحريضا على الرجوع إليه سبحانه وأن هاتين الصفتين هو جل وعلا متصف بهما كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك أطماع لمن آمن به تعالى وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق تبارك وتعالى أنه يغفر زلله السابق ويرحمه، وأيضا فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ذكر ما حصل من المنعم ومن جنس المنعم عليه، فحصل من المنعم ما يناسب حالة عطائه وهو الغفران والرحمة إذ لولاهما لما أنعم عليه، وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسب حالة الإنعام عليه ويقع معها في الجملة وهو الظلم والكفران فكأنه قيل: إن صدر من الإنسان ظلم فالله تعالى غفور أو كفران فالله تعالى رحيم لعلمه بعجز الإنسان وقصوره. وما نقل السخاوي عن عبد الرحمن بن أسلم من أن هذه الآية منسوخة
(٢٢٩)
مفاتيح البحث: الشكر (1)، الظلم (3)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 224 225 226 227 228 229 230 231 232 233 234 ... » »»