ما يستدعي نبوتك وكونك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا بذلك وأتباعك أراذل اتبعوك من غير تأمل وتثبت فلا يدل اتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفي عنا، وأيضا لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعيا لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لنوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل، فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلا لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئا * (بل نظنكم كاذبين) * جميعا لكون كلامكم واحدا ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك، قيل: واقتصروا على الظن احترازا منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما أنهم عبروا بما عبروا أولا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الانصاف.
* (قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربىوءاتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) * * (قال) * استئناف بياني * (ياقوم أرءيتم) * أي أخبروني، وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور * (إن كنت على بينة) * حجة ظاهرة * (من ربي) * وشاهد يشهد لي بصحة دعواي * (وءاتاني رحمة من عنده) * هي النبوة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة منه سبحانه، ووجه إفراد الضمير في قوله تعالى: * (فعميت عليكم) * أي أخفيت على هذا ظاهر، وإن أريد بها النبوة. وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالافراد لإرادة كل واحدة منهما، أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفاء البينة خفاء المدعى، وجملة * (وآتاني رحمة) * على هذا معترضة أو لكونه للرحمة، وفي الكلام مقدر أي أخفيت الرحمة بعد إخفاء البينة وما يدل عليها وحذف للاختصار. وقيل: إنه معتبر في المعنى دون تقدير، أو لتقدير - عميت - غير المذكر بعد لفظ البينة وحذف اختصارا، وفيه تقدير جملة قبل الدليل.
وقرأ أكثر السبعة * (فعميت) * بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل، وهو من العمى ضد البصر، والمراد به هنا الخفاء مجازا يقال: حجة عمياء كما يقال: مبصرة للواضحة، وفي الكلام استعارة تبعية من حيث أنه شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد، ثم فعل ما لا يخفى عليك، وجوز أن يكون هناك استعارة تمثيلية بأن شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها واتبع دليلا أعمى فيها، وقيل: الكلام على القلب، والأصل فعميتم عنها كما تقول العرب: ادخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر: ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه وقوله سبحانه: * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * (إبراهيم: 47) وتعقبه أبو حيان بأن القلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة، وقول الشاعر ليس منه بل من باب الاتساع في الظرف، وكذا الآية ليست منه أيضا لأن أخلف يتعدى إلى مفعولين، والوصف منه كذلك ولك أن تضيفه إلى أيهما شئت على أنه لو كان ما ذكر من القلب لكان التعدي بعن دون على، ألا ترى أنك تقول: عميت عن كذا ولا تقول: عميت على كذا.
وروي الأعمش عن وثاب - وعميت - بالواو الخفيفة، وقرأ أبي. والسلمي. والحسن. وغيرهم فعماها عليكم على أن الفعل لله تعالى، وقرىء بالتصريح به وظاهر ذلك مع أهل السنة القائلين بأن الحسن والقبيح منه تعالى، ولذا أوله الزمخشري خفظا لعقيدته * (أنلزمكموها) * أي أنكرهكم على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط.