وقال في البحر أنه كذا في الإمام أيضا (يوسف أيها الصديق (في الكلام حذف أي فأرسلوه فأتاه فقال: يا يوسف ووصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجرب أحواله في مدة إقامته معه في السجن لكونه بصدد اغتنام آثاره واقتباس أنواره فهو من باب براعة الإستهلال وفيه إشارة إلا أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي واستدل بذلك على أنهما لم يكذبا على يوسف في منامهما وأنهما كذبا في قولهما: كذبنا إن ثبت ((أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات (أي في رؤيا ذلك وإنما لم يصرح به لوضوح مرامه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدلالة مضمون الحادثة عليه حيث أن مثله لا يقع في عالم الشهادة والمعنى بين لنا مآل ذلك وحكمه وعبر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولا (نبئنا بتأويله) تفخيما لشأنه عليه السلام حين عاين رتبته في الفضل ولم يقل: أفتني مع المستفتي وحده إشعارا بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة وأنه في ذلك معبر وسفير ولذا لم يغير لفظ الملك ويؤذن بهذا قوله: (لعلي أرجع إلى الناس (أي إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد فأنبئهم بما أفتيت (لعلهم يعلمون 46 (ذلك ويعلمون بمقتضاه أو يعلمون فضلك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلص منه والجملة عند أبي حيان على الأول كالتعليل للرجوع وعلى الثاني كالتعليل لاقتنا وإنما لم يبت القول بل قال: (لعلي) و (لعلهم) مجاراة معه عليه السلام على نهج الأدب واحترازا عن المجازفة إذ لم يكن على يقين من الرجوع: فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير ولا من علمهم بذلك فربما لم يعلموه إما لعدم فهمهم أو لعدم اعتمادهم (قال مستأنف على قياس غير مرة تزرعون سبع سنين دأبا (قرأ حفص بفتح الهمزة والجمهور بإسكانها وقريء دابا بألف من غير همز على التخفيف وهو في كل ذلك مصدر لدأب وأصل معناه التعب ويكنى به عن العادة المستمرة لأنها تنشأ من مداومة العمل اللازم له التعب وانتصابه على الحال من ضمير (تزرعون) أي دائبين أو ذوي دأب وأفراد لأن المصدر الأصل فيه الإفراد أو على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أي تدأبون دأبا والجملة حالية أيضا وعند المبرد مفعول مطلق لتزرعون وذلك عنده نظير قعد القرفصاء وليس بشيء وقد أول عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف اليابسات بسنين مجدبة فأخبرهم بأنهم يواظبون على الزراعة سبع سنين ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأولها وقيل: المراد الأمر بالزراعة كذلك فالجملة خبر لفظا أمر معني وأخرج على صورة الخبر مبالغة في إيجاب إيجاده حتى كأنه وقع وأخبر عنه وأيد بأن قوله تعالى: (فما حصدتم (أي في كل سنة ((فذروه في سنبله ولا تذروه كيلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها إذا مضى عليها نحو عامين ولعله استدل على ذلك بالسنبلات الخضر يناسب كونه أمرا مثله قيل: لأنه لو لم يؤول ذلك بالأمر لزم عطف الإنشاء على الخبر لأن ما إما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط وعلى كل حال فلكون الجزاء إنشاء
(٢٥٤)