تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٢ - الصفحة ٢٠٩
والآية على الأول صريحة في مذهب أهل السنة * (ول‍اكن أكثر الناس لا يعلمون) * أن الأمر كذلك فيما يأتون ويذرون زعما منهم أن لهم من الأمر شيئا، وأنى لهم ذلك؟! وأن الأمر كله لله عز وجل، أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله، والمراد - بأكثر الناس - قيل: الكفار، ونقل ذلك عن ابن عطية.
وقيل: أهل مصر، وقيل: أهل مكة، وقيل: الأكثر بمعنى الجميع، والمراد أن جميع الناس لا يطلعون على غيبه تعالى، والأولى أن يبقى على ما يتبادر منه ولا يقتصر في تفسيره على ما تضمنته الأقوال قبل، بل يراد به من نفى عنه العلم بما تقدم كائنا ما كان، ولا يبعد أن يندرج في عمومه أهل الاعتزال.
* (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذالك نجزى المحسنين) * * (ولما بلغ أشده) * أي بلغ زمان انتهاء اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف عن النمو المعتد به أعني ما بين الثلاثين والأربعين، وسئل القاضي النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب الخيمي عنه، فقال: هو خمس وثلاثون سنة وتمامه أربعون.
وقال الزجاج: هو سبعة عشر عاما إلى نحو الأربعين، وعن مجاهد. وقتادة - ورواه ابن جبير - عن ابن عباس أنه ثلاثة وثلاثون. أو ثلاثون. أو أحد وعشرون، وقال الضحاك: عشرون، وحكى ابن قتيبة أنه ثمان وثلاثون.
وقال الحسن: أربعون، والمشهور أن الإنسان يقف جمسه عن النمو إذا بلغ ذلك، وإذا وقف الجسم وقفت القوى والشمائل والأخلاق ولذا قيل: إذا المرء وفي الأربعين ولم يكن * له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى * وإن جر أسباب الحياة له العمر وقيل: أقصى الأشد إثنان وستون، وإلى كون الأشد منتهى الشباب والقوة قبل أن يؤخذ في النقصان ذهب أبو عبيدة. وغيره من ثقات اللغويين، واستظهره بعض المحققين، وهو عند سيبويه جمع واحده شدة - كنعمة. وأنعم - وقال الكسائي. والفراء: إنه جمع شد نحو - صك. وأصك، وفلس. وأفلس - وهذا على ما ذكر أبو حاتم يوجب أن يكون مؤنثا لأن كل جميع على أفعل مؤنث.
وزعم عن أبي عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب، وقال الفراء: أهل البصرة يزعمون أنه اسم واحد لكنه على بناء ندر في المفردات وقلما رأينا اسما على أفعل إلا وهو جمع * (ءاتين‍اه حكما) * أي حكمة وهي في لسان العشر العلم النافع المؤيد بالعمل لأنه بدونه لا يعتد به، والعمل بخلاف العلم سفه، أو حكما بين الناس * (وعلما) * يعني علم تأويل الرؤيا، وخص بالذكر لأنه غير داخل فيما قبله، أو أفراد بالذكر لأنه مما له شأن وليوسف عن هواها وصونها عما لا ينبغي. والعلم هو العلم النظري، وقيل: أراد بالحكمة الحكم بين الناس. وبالعلم العلم بوجوه المصالح فإن الناس كانوا إذا تحاكموا إلى العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله وإصابته في الرأي.
وعن ابن عباس أن الحكم النبوة. والعلم الشريعة وتنكيرهما للتفخيم أي حكما وعلما لا يكتنه كنههما ولا يقادر قدرهما، وتعقب كون المراد بالعلم العلم بتأويل الأحاديث - بأن قوله سبحانه: * (وكذلك) * أي مثل ذلك الجزاء العجيب * (نجزي المحسنين) * أي كل من يحسن في علمه - يأباه لأن ذلك لا يصلح أن يكون جزاءا لأعماله الحسنة التي من جملتها معاناة الأحزان والشدائد إلا أن يخص بعلم تأويل رؤيا الملك فإن ذلك
(٢٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 204 205 206 207 208 209 210 211 212 213 214 ... » »»