فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علوما لا تحصى يمن الله تعالى بها على من يشاء، وفي قوله تعالى: * (وقل رب زدني علما) * (طه: 114) إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم: * (ما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 85) ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئا من أهل الله تعالى مخالفا لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا: زيغ وضلال واعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظنا منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحد أولئك المجتهدين مع أن الاختلاف لم يزل قائما بينهم على ساق.
على أنه قد يقال لهم: ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضا كسائر مجتهديكم؟ فإن قالوا: إن للمجتهد شروطا معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا: هذه الشروط التي وضعت للمجتهد في دين الله تعالى هل هي منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحا أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد؟ فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا بها واتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك، وإن كان الواضع لها أنتم - وأنتم أجهل من ابن يوم - فهي رد عليكم ولا حبا ولا كرامة على أن في اعتبارها أخذا بكلام من ليس مجتهدا وأنتم لا تجوزونه، وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهدا متوقف على اعتبار تلك الشروط واعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهدا وهل هذا إلا دور وهو محال لو تعقلونه، وأيضا لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطا للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس وتزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني وتهيؤها واستعدادها لقبول العلم من الله تعالى؟ وأي مانع من أن يخلق الله تعالى العلم فيمن صفت نفسه وتهيأت بالفقر واللجأ إلى الله تعالى وصدق عزمه في الأخذ ولم يتكل على حوله وقوته كما يخلقه فيمن استوفى شروط الاجتهاد عندكم فاجتهد وصرف فكره ونظره؟ والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على الله تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى، فلا ينبغي للمصنف العارف بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمن ظهرت فيه آثار التصفية والتهىء وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة، ويأبى الله تعالى أن يأتي ذلك بمثل ما ذكر.
لكن ذكر مولانا الإمام الرباني ومجدد الألف الثاني قدس سره في بعض مكتوباته الفارسية أنه لا يجوز تقليد أهل الكشف في كشفهم لأن الكشف لا يكون حجة على الغير وملزما له، وقد يقال: ليس في هذا أكثر من منع تقليد أهل الكشف، ومحل النزاع الإنكار عليهم ورميهم والعياذ بالله تعالى بالزندقة وليس في الكلام أدنى رائحة منه كما لا يخفى * (إن الله لذو فضل على الناس) * (البقرة: 243) بصنفي العلمين وإفاضتهما بعد تهيئة الاستعداد لقبولهما * (ولكن أكثرهم لا يشكرون) * (يونس: 60) ذلك ولا يعرفون قدره فيمنعون عن الزيادة * (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) * (يونس: 61) إخبار منه تعالى بعظيم اطلاعه سبحانه على الخواطر وما يجري في الضمائر فلا يخفى عليه جل شأنه خاطر ولا ضمير * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) * (الملك: 14) ثم أخبر جل وعلا عن سلطان إحاطته على كل ذرة من العرش إلى ما تحت الثرى بقوله تبارك اسمه: * (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) * (يونس: 61) أي إن علمه سبحانه محيط بما في العالم السفلي والعلوي فكل ذرة من ذراته داخلة في حيطة علمه كيف لا وكلها قائمة به جل شأنه ينظر إلى كل في كل آن