صقع منها، وعليه يبنى النظر في الغرق هل عم جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته المكذبيين به كما هو ظاهر كثير من الآيات والأحاديث، قال ابن عطية: الراجح عند المحققين هو الثاني، وكثير من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الغرق، والأول لا ينافي القول باختصاص عموم الرسالة على العموم المشهور بين الخصوص والعموم بنبينا صلى الله عليه وسلم لأنها لمن بعده إلى يوم القيامة.
وزعم بعضهم أن الغرق كان عاما مع خصوص البعثة ولا مانع من أن يهلك الله تعالى من لا جناية له مع من له جناية ولا اعتراض عليه سبحانه فيما ذكر إذ هو تصرف في خالص ملكه ولا يسئل عما يفعل. وفي قوله سبحانه: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * (الأنفال: 25) نوع إشارة إلى ذلك. نعم قد ثبت لنون عليه السلام عموم الرسالة انتهاء حيث لم يبق على وجه الأرض بعد الطوفان سوى من كان معهم وهم جميع أهل الأرض إذ ذاك فالفرق بين رسالته عليه السلام ورسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ظاهر فإن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عامة ابتداء وانتهاء ورسالته عليه السلام عامة انتهاء لا ابتداء ولا يخلو عن نظر، والأولى أن يعتبر في اختصاص عموم رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام كونها لمن بعده إلى يوم القيامة فإن عدم ثبوت ذلك لأحد من الرسل عليهم السلام قبل نوح وبعده مما لا يتنازع فيه، وهذا كله إذا لم يلاحظ في العموم الجن وكذا الملائكة إذا لوحظ كما يفيده قوله سبحانه: * (ليكون للعالمين نذيرا) * (الفرقان: 1) فأمر الاختصاص أظهر وأظهر.
* (فجاءوهم) * أي فأتى كل رسول قومه المخصوصين به * (بالبينات) * أي بالمعجزات الواضحة الدالة على صدق ما يقولون، والباء إما متعلقة بما عندها على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المرفوع أي متلبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة فقط بل بأن يأتي ببينة أو ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة، وإلى نفي إرادة الاتيان ببينة وإرادة الاتيان ببينات كثيرة ذهب شيخ الإسلام، ثم قال: فإن مراعاة انقسام الآحاد على الآحاد إنما هي في ضميري * (جاؤوهم) * كما أشير إليه، ولعل صنيعنا أحسن من صنيعه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن انفهام إرسال كل رسول إلى قومه من إشافة القوم إلى ضمير * (رسلا) * وليس ذلك من مقابلة الجمع بالجمع المقتضى لانقسام الآحاد على الآحاد، ولا شك أن انفهام مجيء كل رسول قومه المخصوصين به تابع لذلك. وبعد هذا كله إذا اعتبر مقابلة الجمع بالجمع في جاؤوهم بالبينات، وقيل بانقسام الآحاد على الآحاد لا يلزم أن يكون لكل رسول بينة جاء بها كما أن - باع القوم دوابهم - لا يقتضي أن يكون لكل واحد من القوم دابة واحدة باعها فإن معناه باع كل من القوم ماله من الدواب وهم يعم الدابة الواحدة وغيرها، وهذا بخلاف ركب القوم دوابهم فإنه يتعين فيه إرادة كل واحدة من الدواب لاستحالة ركوب الشخص دابتين مثلا. وقد نص العلامة أبو القاسم السمرقندي في حواشيه على المطول أنه لا يشترط في مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد على الآحاد بمعنى أن يكون لكل واحد من أحد الجمعين واحد من الجمع الآخر وهو ظاهر فيما قلنا، والمعول عليه في كون الآية من قبيل المثال الأول أمر خارج، فإن من المعلوم أن الرسول الواحد من الرسل عليهم السلام قد جاء قومه ببينات فوق الواحدة * (فما كانوا ليؤمنوا) * بيان