يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا ما قالوا سمع موسى عليه السلام مناديا يقول؛ بل ألقوا أنتم يا أولياء الله تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك * (فلما ألقوا) * ما القوا وكانمع كل واحد منهم حبل وعصا * (سحروا أعين الناس) * بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، ولذا لم يقل سبحانه سحروا الناس فالآية على حد قوله جل شأنه: * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * (طه: 66) * (واسترهبوهم) * أي أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا إرهابهم * (وجاءوا بسحر عظيم) * في بابه، يروى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلا في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصى زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم.
وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشيء على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى. نعم قال القرطبي: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمر والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وانطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر.
* (وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون) *.
* (وأوحينا إلى موسى) * بواسطة الملك كما هو الظاهر * (أن ألقى عصاك) * التي علمت من أمرها ما علمت و * (أن) * تفسيرية لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه، وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر مفعول الإيماء، والفاء في قوله سبحانه:
* (فإذا تلقف ما يأفكون) * فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي الخ، وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الغريبة، واللقف كاللقفان التناول بسرعة، وفسره الحسن هنا بالسرط والبلع، والإفك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق على الكذب وبذلك فسره ابن عباس. ومجاهد لكونه مقلوبا عن وجهه واشتهر ذلك فهي حتى صار حقيقة، و * (ما) * موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي ما يأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف، وقرأ الجمهور * (تلقف) * بالتشديد وحذف إحدى التاءين.
* (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون) *.
* (فوقع) * أي ظهر وتبين كما قال الحسن. ومجاهد. والفراء * (الحق) * وهو أمر موسى عليه السلام، وفسر بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابل