بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون هذه الشهوات آلاما وإنما ينظرون ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها " اه.
والآية حجة على المعتزلة في وجه. وأجاب الكعبي بأن اللام للعاقبة وليست للتعليل بوجه وهو خلاف الظاهر. وقال غيره: إنها لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون. واعترض بأن النون حذفت ولام القسم باقية على فتحها كقوله: لئن تكن قد ضاقت على بيوتكم * ليعلم ربي أن بيتي واسع بفتح لام ليعلم، نعم حكي عن بعض العرب كسر لام جواب القسم الداخلة على المضارع كقوله: لتغني عن ذا إنائك أجمعا وهو غير مجمع عليه أيضا فإن أناسا أنكروا ورود ذلك، وجعلوا اللام في البيت للتعليل والجواب محذوف أي لتشربن لتغني عني. واستشهد الأخفش بالبيت على إجابة القسم بلام كي. وقال الرضي: لا يجوز عند البصريين في جواب القسم الاكتفاء بلام الجواب عن نون التوكيد إلا في الضرورة. وعن الجبائي أن اللام هنا لام الأمر، والمراد منه التهديد أو التخلية واستعمال الأمر في ذلك كثير.
واعترض بأنها لو كانت لام الأمر لحذف حرف العلة. وأجيب بأن حرف العلة قد يثبت في مثله كما خرج عليه قراءة * (أرسله معنا غدا نرتعي ونلعب) * و * (إنه من يتقي ويصبر) * فليكن هذا كذلك. ويؤيد أنها لام الأمر أنه قرىء بحذف حرف العلة. وقرأ الحسن بتسكين اللام في هذا وفي الفعلين بعده. فدعوى إن ضعف كونها للأمر أظهر من ضعف الوجهين الأولين غير ظاهرة.
واستدل أصحابنا بإسناد الصغو إلى الأفئدة على أن البنية ليست شرطا للحياة فالحي عندهم هو الجزء الذي قامت به الحياة، والعالم هو الجزء الذي قام به العلم، وقالت المعتزلة: الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء، والإسناد هنا مجازي ".
* (وليرضوه) * لأنفسهم بعدما مالت إليه أفئدتهم * (وليقترفوا) * أي ليكتسبوا، قال الراغب: " أصل القرف والإقتراف قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجرح وما يؤخذ منه قرف، واستعير الإقتراف للإكتساب حسنا كان أو سوءا وفي الإساءة أكثر استعمالا، ولهذا يقال: الإعتراف يزيل الإقتراف، ويقال: قرفت فلانا بكذا إذا عبته به واتهمته؛ وقد حمل على ذلك ما هنا " وفيه بعد. ومثله ما نقل عن الزجاج أن المعنى فيه وليختلقوا وليكذبوا * (ما هم مقترفون) * أي الذي هم مقترفوه من القبائح التي لا يليق ذكرها. وجوز أن تكون * (ما) * موصوفة، والعائد محذوف أيضا. وأن تكون مصدرية فلا حاجة إلى تقدير عائد.
* (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذىأنزل إليكم الكتابمفصلا والذين ءاتيناهم الكتابيعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين) *.
* (أفغير الله أبتغي حكما) * كلام مستأنف (وارد) على إرادة القول. والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي قل لهم يا محمد: أأميل إلى زخارف الشياطين أو أعدل عن الطريق المستقيم فأطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل. وقيل: إن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: