لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الإمتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر خلاف الظاهر. ومثله قول أبي بكر الأصم إن هذا الجعل بطريق التسبب حيث أرسل سبحانه الأنبياء عليهم السلام وخصهم بالمعجزات فحسدهم من حسدهم وصار ذلك سببا للعداوة القوية، ونظير ذلك قول المتنبي: فأنت الذي صيرتهم حسدا وقيل: المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين كذلك أمرنا من قبلك من الأنبياء بمعاداة نحو أولئك أو كما أخبرناك بعداوة المشركين وحكمنا بذلك أخبرنا الأنبياء بعداوة أعدائهم وحكمنا بذلك والكل ليس بشيء، وهكذا غالب تأويلات المعتزلة.
* (شياطين الإنس والجن) * أي مردة النوعين كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد على أن الإضافة بمعنى من البيانية؛ وقيل: هي إضافة الصفة للموصوف والأصل الإنس والجن الشياطين، وقيل: هي بمعنى اللام أي الشياطين (التي) للإنس والجن. وفي " تفسير الكلبي " عن ابن عباس ما يؤيده فإنه روى عنه أنه قال: إن إبليس عليه اللعنة جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس وفريقا آخر إلى الجن. وفي رواية أخرى عنه أن الجن هم الجان وليسوا بشياطين والشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا معه والجن يموتون ومنهم المؤمن والكافر، وهو نصب على البدلية من * (عدوا) * والجعل متعد إلى واحد أو إلى إثنين وهو أول مفعوليه قدم عليه الثاني مسارعة إلى بيان العداوة، واللام على التقديرين متعلقة بالجعل أو بمحذوف وقع حالا من * (عدوا) * قدم عليه لنكارته، وجوز أن يكون متعلقا به وقدم عليه للإهتمام، وأن يكون نصب * (شياطين) * بفعل مقدر.
وقوله سبحانه: * (يوحي بعضهم إلى بعض) * كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم أو حال من * (شياطين) * أو صفة لعدو، وجمع الضمير باعتبار المعنى كما في البيت السابق، " وأصل الوحي - كما قال الراغب - الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة أيضا "، والمعنى هنا يلقى ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض كل من الفريقين إلى الآخر.
* (زخرف القول) * أي المزوق من الكلام الباطل منه. وأصل الزخرف الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب: زخرف، وقال بعضهم: أصل معنى الزخرف الذهب، ولما كان حسنا في الأعين قيل لكل زينة زخرفة، وقد يخص بالباطل * (غرورا) * مفعول له أي ليغروهم، أو مصدر في موقع الحال أي غارين، أو مصدر لفعل مقدر هو حال من فاعل * (يوحي) * أي يغرون غرورا، وفسر الزمخشري الغرور بالخداع والأخذ على غرة، ونسب للراغب أنه قال: يقال غره غرورا كأنما طواه على غره - بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء - وهو طيه الأول.
* (ولو شاء ربك ما فعلوه) * رجوع كما قيل إلى بيان الشؤون الجارية بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم السلام وبين أممهم كما ينبىء عنه الالتفات، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام المعربة عن كمال اللطف في التسلية، والضمير المنصوب في * (فعلوه) * عائد إلى عداوتهم له صلى الله عليه وسلم وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة المتعلقة بأمر عليه