تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٨ - الصفحة ١٣٧
بالنهار أي مبيضا بنور الفجر بناء على ما في " الصحاح " من أن الأغشى من الخيل وغيره ما ابيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه، وذكر سبحانه أحد الأمرين ولم يذكرهما معا كما في قوله تعالى: * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) * (فاطر: 13) للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير إليه أو لأن اللفظ يحتمله - على ما قيل -، وقال بعض المحققين: إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر بأخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية.
وجملة * (يغشي) * - على ما قاله ابن جنى - على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه: * (ثم استوى) * والعائد محذوف أي: يغشي الليل النهار بأمره أو باذنه، وقوله جل وعلا: * (يطلبه حثيثا) * بدل من * (يغشي) * الخ للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة حال من * (الليل) * أي يغشي الليل النهار طالبا له حثيثا، و * (حثيثا) * حال من الضمير في * (يطلبه) * وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من * (النهار) * على تقدير قراءة حميد أيضا. وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الأولى. وقال بعضهم: يجوز في * (حثيثا) * أن يكون حالا من الفاعل بمعنى حاثا أو من المفعول أي محثوثا، وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلبا حثيثا، وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار - على ما قال الإمام وغيره - إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهى أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. واعترض بأن الفلك الأعظم إن كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الأفلاك أيضا وهو الكرسي والسموات السبع بل ادعوا أن النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى وكيف شاء، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إنها تجري في ثخن الأفلاك جري السمك في الماء كل في فلك يسبحون، وفسر - فيما نقل عنه - قوله سبحانه: * (يغشي الليل النهار) * بيجعله غاشيا له غشيان الرجل المرأة وقال: ذكر سبحانه الغشيان هنا والإيلاج في آية أخرى وهذا هو التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات، وإن صح هذا فما أصح قولهم: الليل حبلى وما ألطفه، وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح. والحاصل من هذا الغشيان عند من يقول به ما في هذا العالم من معدن ونبات وحيوان وهي المواليد الثلاث أو من الحوادث مطلقا، ويقرب من هذا قوله: أشاب الصغير وأفنى الكبير * كر الغداة ومر العشي وأنت تعلم أن لا مؤثر في الوجود على الحقيقة إلا الله تعالى، ووجه ذكره سبحانه هذا بعد ذكره الاستواء - على ما نقل عن القفال - أنه جل شأنه لما أخبر العباد باستوائه أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات، ولا يخفى أن هذا قد يحسن وجها لذكر ذلك وما بعده بعد ذكر الاستواء وأما لذكره بخصوصه هناك دون تسخير الشمس والقمر فلا، وذكر صاحب " الكشف " في توجيه اختيار صاحب " الكشاف " هنا أن الغاشي هو النهار وفي الرعد (3) هو الليل، وتفسيره التغشية هناك بالإلباس وهنا بالإلحاق نظرا إلى الخلاصة ما يفهم منه وجه تقديم التغشية على التسخير الآتي في هذه الآية وعكسه في آية الرعد حيث قال: والنكتة في ذلك أن تسخر الشمس والقمر ذكر هنالك من قبل في تعديد الآيات فلما فرغ ذكر إدخال الليل على النهار ليطابقه ولأنه
(١٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 132 133 134 135 136 137 138 139 140 141 142 ... » »»