تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٨ - الصفحة ١١٩
إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل: حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم * (في سم الخياط) * أي ثقبة الابرة وهو مثل عندهم أيضا في ضيق المسلك وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه. وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة. والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق. وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يبيض القار وحتى يؤوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبدا، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعكرمة. والشعبي * (الجمل) * بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل.
وقرأ عبد الكريم وحنظلة وابن عباس وابن جبير في رواية أخرى * (الجمل) * بالضم والفتح مع التخفيف كنغر. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ * (الجمل) * بضم الجيم وسكون الميم كالقفل و * (الجمل) * بضمتين كالنصب، وقرأ أبو السمال * (الجمل) * بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل، وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب. وقيل: هو حبل السفينة، وقرىء * (في سم) * بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر، ومعناه الثقب الصغير مطلقا. وقيل: أصله ما كان في عضو كأنف وأذن، وقرأ عبد الله * (في سم المخيط) * بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع.
* (وكذلك) * أي مثل ذلك الجزاء الفظيع * (نجزي المجرمين) * أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولا أوليا، وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة. ويقال: أجرم صار ذا جرم كأتمر وأثمر، ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه، ولا يكاد يقال للكسب المحمود.
* (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذالك نجزى الظ‍المين) *.
* (لهم من جهنم مهاد) * أي فراش من تحتهم، وتنوينه للتفخيم وهو فاعل الظرف أو مبتدأ، والجملة إما مستأنفة أو حالية، و (من) تجريدية، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من * (مهاد) * لتقدمه * (ومن فوقهم غواش) * أي أغطية جمع غاشية، وعن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي أنها اللحف. والآية - على ما قيل - مثل قوله تعالى: * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) * (الزمر: 16) والمراد أن النار محيطة بهم من جميع الجوانب وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال: " هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكثر أو ما تحته غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح " وتنوين * (غواش) * عوض عن الحرف المحذوف أو حركته، والكسرة ليست للإعراب وهو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع، وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوفة نسيا منسيا، ولذا قرىء * (غواش) * بالرفع كما في قوله تعالى: * (وله الجوار المنشآت) * (الرحمان: 24) في قراءة عبد الله.
* (وكذالك) * أي ومثل ذلك الجزء الشديد * (نجزي الظالمين) * عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى للتنبيه على أنهم بتكذيبهم بالآيات واستكبارهم عنها جمعوا الصفتين. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الأجرام، ولا يخفى على المتأمل في لطائف القرآن العظيم ما في إعداد المهاد والغواشي لهؤلاء المستكبرين عن الآيات ومنعهم من العروج إلى الملكوت وتقييد عدم دخولهم الجنة بدخول البعير بخرق الإبرة من اللطافة فليتأمل.
* (والذين ءامنوا وعملوا الص‍الحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أول‍ائك أصح‍ابالجنة هم فيها خ‍الدون) *.
* (والذين آمنوا) * أي بآياتنا ولم يكذبوا بها * (وعملوا) * الأعمال * (الصالحات) * ولم يستكبروا عنها * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) * أي ما تقدر عليه
(١١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 ... » »»