والمراد بها إما الآيات التنزيلية أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات. والإتيان على الأول: بمعنى النزول، وعلى الثاني: بمعنى الظهور على ما قيل، ويفهم من كلام بعض المحققين أنه مطلقا بمعنى الظهور استعمالا له في لازم معناه وهو المجيء الذي لا يوصف به إلا الأجسام مجازا لا كناية كما قيل وحاصل المعنى على الأول: ما تنزل إليهم آية من الآيات القرآنية الجليلة الشأن التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى شأنه المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته على كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال العباد وأعمالهم الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها.
* (إلا كانوا عنها معرضين) * غير مقبلين عليها ولا معتنين بها، وعلى الثاني: ما تظهر لهم آية من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذكر من جلائل شؤونه سبحانه وتعالى الشاهدة بوحدانيته عز وجل إلا كانوا (عنها معرضين) تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان بمكونها، وأصل الإعراض صرف الوجه عن شيء من المحسوسات. واستعماله في عدم الاعتناء أو ترك النظر مجاز على ما حققه البعض. وفسر شيخ الإسلام الإعراض على الوجه الأول بما كان على وجه التكذيب والاستهزاء، و (عن) متعلقة بمعرضين. والتقديم لرعاية الفواصل. والجملة بعد إلا - كما قال الكرخي - في موضع النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المخصص بالوصف كما قيل وهي مشتملة على ضمير كل منهما. وإيثارها على أعرضوا عنها كما وقع مثله في قوله تعالى: * (وإن يروا آية يعرضوا) * (القمر: 2) للدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات.
* (فقد كذبوا بالحق لما جآءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون) *.
وفي الكلام إشارة إلى غاية انهماكهم في الضلال حيث آذن أن إعراضهم عما يأتيهم من الآيات أن الإتيان كما يصفح عنه كلمة * (لما) * في قوله تعالى:
* (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم) * فإن الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه. وعبر عنه بذلك إظهارا لكمال فظاعة ما فعلوا به. والفاء على تقدير أن يراد بالآيات الآيات التنزيلية - كما هو الأظهر على ما قرره مولانا شيخ الإسلام - لترتيب ما بعدها على ما قبلها لا باعتبار أنه مغاير له حقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أنه عينه في الحقيقة والترتيب بحسب التغاير الاعتباري حيث إن مفهوم التكذيب بالحق أشنع من الإعراض المذكور إذ هو مما لا يتصور صدوره من أحد. ولذلك أخرج مخرج اللازم البين البطلان وترتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه. ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل (بل آن المجيء) تأكيدا لشناعة فعلهم الفظيع. وعلى تقدير أن يراد الآيات التكوينية داخلة على جواب شرط محذوف. والمعنى على الأول: حيث أعرضوا عن تلك الآيات حين إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن لعاقل تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه. وعلى الثاني: أنهم إن كانوا معرضين عن الآيات حال إتيانها فلا تعجب من ذلك فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات. واختار في " البحر " كون الفاء سببية وما بعدها مسبب عما قبلها. وجوز أيضا كونها سببية على معنى أن ما بعدها سبب لما قبلها فقد قال الرضي: وقد تكون فاء السببية بمعنى لام السببية وذلك إذا كان ما بعدها سببا لما قبلها نحو قوله تعالى: * (فاخرج منها فإنك رجيم) * (الحجر: 34، ص: 77) وأطلق عليها الكثير حينئذ الفاء التعليلية. وهل تفيد الترتيب حينئذ أم لا؟ لم يصرح الرضي