بمعنى التسوية فقالوا: غيره أو الأوثان لأنه لا يحسن إنكار العدل بخلاف إنكار العدول، ونظر في ذلك بأن مجرد العدول بدون اعتبار متعلقه غير منكر ألا ترى أن العدول عن الباطل لا ينكر فالظاهر اعتبار المتعلق إلا أنه حذف لأجل الفاصلة كما أن تقديم * (بربهم) * على احتمال تعلقه بما بعد لذلك، ويجوز أن يكون للاهتمام.
وقال بعض المحققين: إن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه عند التحقيق ليس بوارد لأن العدول وإن كان له فردان أحدهما مذموم وهو العدول عن الحق إلى الباطل وممدوح وهو العدول عن الباطل إلى الحق لكن العدول الموصوف به الكفار لا يحتمل الثاني فلتعينه لا يحتاج إلى تقدير متعلق وتنزيله منزلة اللازم أبلغ عند التأمل بخلاف التسوية فإنها من النسب التي لا تتصور بدون المتعلق فلذا قدروه. ومن هذا يعلم أن تنزيل الفعل منزلة اللازم الشائع فيما بينهم إنما يكون أو يحسن فيما ليس من قبيل النسب. هذا وأخرج ابن الضريس في " فضائل القرآن ". وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن كعب قال: فتحت التوراة ب * (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) * وختمت ب * (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) * إلى قوله سبحانه وتعالى * (وكبره تكبيرا) * (الإسراء: 111).
* (هو الذى خلقكم من طين ثم قضىأجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) *.
* (هو الذي خلقكم من طين) * استئناف مسوق لبيان (بطلان) (1) كفرهم بالبعث والخطاب وإن صح كونه عاما لكنه هنا خاص بالذين كفروا كما يدل عليه الخطاب الآتي ففيه التفات. والنكتة فيه زيادة التشنيع والتوبيخ، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر أدلة صحة البعث مع أن ما تقدم من أظهر أدلته لما أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة، ومعنى خلق المخاطبين من طين أنه ابتدأ خلقهم منه فإنه المادة الأولى (للكل) لما أنه أصل آدم عليه الصلاة والسلام وهو أصل سائر البشر، ولم ينسب سبحانه الخلق إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه المخلوق منه حقيقة وكفاية ذلك في الغرض الذي سيق له الكلام توضيحا لمنهاج القياس ومبالغة في إزاحة الشبهة والالتباس، وقيل في توجيه خلقهم منه: إن الإنسان مخلوق من النطفة والطمث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة.
وقال المهدوي في ذلك: إن كل إنسان مخلوق ابتداء من طين لخبر " ما من مولود يولد إلا ويذر على نطفته من تراب حفرته "، وفي القلب من هذا شيء، والحديث إن صح لا يخلو عن ضرب من التجوز، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي خلق (آباءكم) (1)، وأيا ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة.
* (ثم قضى) * أي قدر وكتب * (أجلا) * أي حدا معينا من الزمان للموت. و * (ثم) * للترتيب في الذكر دون الزمان لتقدم القضاء على الخلق، وقيل: الظاهر الترتيب في الزمان، ويراد بالتقدير والكتابة ما تعلم به الملائكة وتكتبه كما وقع في حديث " الصحيحين " " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ".
* (وأجل مسمى) * أي حد معين للبعث من القبور، وهو مبتدأ وصح الابتداء به لتخصيصه بالوصف أو لوقوعه في موقع التفصيل و * (عنده) * هو الخبر، وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره. وقدم على خبره الظرف