فيه أو له أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه، وقيل: " الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين " أي كونه محصلا من آخر كأنه في ضمنه ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية.
واعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولهما خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفاسد يبطل بمجرد هذا، وأيضا أن الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه، وأيضا أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه: * (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا) * (النحل: 80) * (وجعل بينهما برزخا) * (الفرقان: 53) إلى غير ذلك. وأجيب بما لا يخلو عن نظر.
وجمع الظلمات وأفرد النور ليحسن التقابل مع قوله سبحانه: * (خلق السموات والأرض) * أو لما قدمناه في البقرة. وقيل: لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو واحد، ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى: * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) * (الأنعام: 153) واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم بمعنى الهدى والضلال وكان له هنا وجه أيضا لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاء ظاهرا حيث قرنا بالسموات والأرض. وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا يخفى بعده.
وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالا لقائل. وذكر الإمام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر، وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضىء وتتصل بالمستضىء وهو باطل، أما أولا: فلأن كونها أنوارا إما أن يكون هو عين كونها أجساما وإما أن يكون مغايرا لها والأول باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية ولذلك يعقل جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم، وأما إن قيل: إنها أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل عن المضىء وتتصل بالمستضىء فهو أيضا باطل لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوسا وإن كان الثاني كانت ساترة لما تحتها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس، وأما ثانيا: فلأن الشعاع لو كان جسما لكانت حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في كل جهة، وأما ثالثا: فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى أو لا فإن بقيت فإما أن تبقى في البيت وإما أن تخرج فإن قيل: إنها خرجت عن الكوة قبل السد فهو محال وإن قيل: إنها عدمت فهو أيضا باطل فكيف يمكن أن يحكم أن جسما لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فإذن هي باقية في البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها. وهذا هو الذي نقول من أن مقابلة المستضىء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل. وأما رابعا: فلأن الشمس إذا طلعت من الأفق يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق على الفلك محال عندهم، واحتج المخالف بأن