سبحانه لما ذكر في سورة المائدة (87) * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * الخ، وذكر جل شأنه بعده * (ما جعل الله من بحيرة) * (103) الخ فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا، وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى: * (رب العالمين) * وبالبقرة (21) لشرحها إجمال قوله سبحانه: * (الذي خلقكم والذين من قبلكم) * وقوله عز اسمه * (الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (29) وبآل عمران (14) من جهة تفصيلها لقوله جل وعلا * (والأنعام والحرث) * وقوله تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) * (185) الخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال: إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحق الإسفرايني: إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا، ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول، وفي الكهف إلى الإبقاء الأولى وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدأت هذه الخمس بالتحميد. ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد [بم فقال عز من قائل:
* (الحمد لله الذى خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *.
* (بسم الله الرحمن الرحيم * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * جملة خبرية أو إنشائية. وعين بعضهم الأول لما في حملها على الإنشاء من إخراج الكلام عن معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود. وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد إخبارا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق إخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم. ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فإن الإنشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال: بعت بائع.
واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا ليقيل لقائل: ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل * (والولدات يرضعن أولادهن) * (البقرة: 233) مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء لحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر، والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة. وأجابوا عما يلزم كلا من المحذور. نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والإعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لإنشاء الثناء لا يناسبه، وقيل: إن اعتبار خبريتها هنا