تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٦ - الصفحة ١٠٣
نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيها لا بأس به، وهو أن اللائق أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل إليهم الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق، وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضي كرامة لا كرامة فوقها، كما أن الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد جنده ولآخرين ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم وبين غيركم عند الله تعالى، فإنه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم، وكذا على كونه بمعنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى، والجواب عن المناقشة التي فعلها البعض يعلم مما أشرنا إليه سابقا فلا تغفل.
* (ولله ملك السم‍اوات والأرض وما بينهما) * من تتمة الرد أي كل ذلك له تعالى لا ينتمي إليه سبحانه شيء منه إلا بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف يشاء إيجادا وإعداما، إحياءا وإماتة، إثابة وتعذيبا فأنى لهؤلاء ادعاء ما زعموا؟! وربما يقال: إن هذا مع ما تقدم رد لكونهم أبناء الله تعالى بمعنى أشياع بنيه، فنفى أولا كونهم أشياعا وثانيا وجود بنين له عز شأنه * (وإليه المصير) * أي الرجوع في الآخرة لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازي كلا من المحسن والمسيء بما يستدعيه عمله من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه..
* (يأهل الكت‍ابقد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شىء قدير) *.
* (ياأهل الكت‍اب) * تكرير للخطاب بطريق الإلتفات ولطف في الدعوة، وقيل: الخطاب هنا لليهود خاصة * (قد جاءكم رسولنا يبين لكم) * على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة - الشرائع والأحكام النافعة معادا ومعاشا - المقرونة بالوعد والوعيد، وحذف هذا المفعول اعتمادا على الظهور إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام، ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم أي يفعل البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه من أمور الدين، وأما إبقاؤه متعديا مع تقدير المفعول * (كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) * كما قيل، فقد قيل فيه: مع كونه تكريرا من غير فائدة يرده قوله سبحانه: * (على فترة من الرسل) * فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحي إنما يحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه، و * (على فترة) * متعلق - بجاءكم - على الظرفية كما في قوله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) * (البقرة: 102) أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحي ومزيد الاحتياج إلى البيان. وجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ضمير * (يبين) * أو من ضمير * (لكم) * أي يبين لكم حال كونه على فترة، أو حال كونكم على فترة. و * (من الرسل) * صفة * (فترة) * و * (من) * ابتدائية، أي فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم، والفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتورا إذا سكن، والأصل فيها الإنقطاع عما كان عليه من الجد في العمل، وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين الرسولين.
واختلفوا في مدتها بين نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، فقال قتادة: كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وستون سنة، وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، وقال ابن جريج: خمسمائة سنة، وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة، وقيل: كان بين نبينا صلى الله عليه وسلم وأخيه عيسى عليه السلام ثلاثة أنبياء هم المشار إليهم بقوله تعالى: * (أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) * (يس: 14)، وقيل: بينهما عليهما الصلاة والسلام أربعة: الثلاثة المشار إليهم، وواحد من
(١٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 ... » »»