وتقرر حرفوه عنه، واختار ذلك هنالك لأن فيه ما يقتضي الاتيان بالأدل الأبلغ * (ويقولون) * عطف على * (يحرفون) * وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم، واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص بمادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم أو بلسان الحال أو المقال عنادا وتحقيقا للمخالفة * (سمعنا) * أي فهمنا * (وعصينا) * أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب * (واسمع غير مسمع) * عطف على * (سمعنا) * داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني، وفي أثناء مخاطبته صلى الله عليه وسلم - وهو كلام ذو وجهين - محتمل للشر والخير، ويسمى في البديع بالتوجيه كما قاله غير واحد، ومثلوا له بقوله: خاط لي عمرو قباء * ليت عينيه سواء واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسمع نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك، أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لأن أذنيك تنبو عنه - فغير - إما حال لا غير، وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا - لعنهم الله تعالى - إجابته صار كأنه واقع مقرر، واحتماله للخير بأن يحمل على معنى: اسمع منا غير مسمع مكروها من قولهم: أسمعه فلان إذا سبه، وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيا منسيا وتعورف في ذلك، وقد كانوا لعنهم الله تعالى يخاطبون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءا مظهرين له صلى الله عليه وسلم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه.
* (وراعنا) * عطف على ما قبله أي ويقولون أيضا في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا وهو ذو وجهين كسابقه، فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا، أو انتظرنا نكلمك، واحتماله للشر بحمله على السب، ففي " التيسير ": إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة، وقيل: إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا، وقيل: بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون - لعنهم الله تعالى - أنه - وحاشاه صلى الله عليه وسلم - بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم، وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير. وهذا نوع من النفاق ولا ينافيه تصريحهم بالعصيان لما قيل: إن جميع الكفار يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر ولا يخاطبونه بالسب والذم والدعاء عليه عليه الصلاة والسلام، واعترض بأنه حينئذ لا وجه لإيراد السماع والعصيان مع التحريف وإلقاء الكلام المحتمل احتيالا، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: المقصود على هذا عد صفاتهم الذميمة لا مجرد التحريف والاحتيال فكأنه قيل: يحرفون كتابهم ويجاهرون بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالا وحالا وعصيانهم بعد سماع ما بلغهم وتحققه لديهم ويحتالون في سبه صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن قولهم * (سمعنا وعصينا) * لم يكن بمحضره عليه الصلاة والسلام بل كان فيما بينهم فلا ينافي نفاقهم في الجملتين بين يديه صلى الله عليه وسلم، وقيل: القول نظرا إلى الجملة الأولى حالي وإلى الجملتين الأخيرتين لساني، وقيل: إن الأولى أيضا ذات وجهين كالأخيرتين إذ يحتمل أن يكون مرادهم أطعنا أمرك وعصينا أمر قومنا،