تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٥ - الصفحة ٤٦
الثقة بالله تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته، واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث؟! وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف - والجمل هنا متعاطفة - وبه يصير الشيئان شيئا واحدا، وقيل: إنه بيان لأعدائكم، وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض، وقيل: إنه صلة - لنصير - أي ينصركم من الذين هادوا وفيه تحجير لواسع نصرة الله تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصفا ملائما للنصر غير ظاهر، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله تعالى: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * صفة له أي: من الذين هادوا قوم يحرفون ويتعين هذا في قراءة عبد الله و * (من الذين) * وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف، وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه، ومنه قوله: وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسما موصولا، و * (يحرفون) * صلته أي: من الذين هادوا من يحرفون والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ما في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها - من يحرفون - واعترض هذا أيضا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة، والكلم اسم جنس واحده كلمة - كلبنة ولبن، ونبقة ونبق - وقيل: جمع - وليس بشيء على المختار - ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الإثنين مطلقا، وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا، وجمعيته باعتبار تعدده معنى، وقرىء بكسر الكاف وسكون اللام جمع - كلمة - تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف، وقرىء * (يحرفون الكلام) *، والمراد به ههنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكي عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والأول: هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما، وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم - ربعة - في نعت النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعهم مكانه طوال، وكتحريفهم - الرجم - ووضع الحد موضعه، وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم، ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقا وغربا؟!. وأجيب بأن ذلك كا قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد، وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود، وقيل: إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأويل، والمراد من * (مواضعه) * على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره، وأصل التحريف إمالة الشيء إلى حرف أي طرف فإذا كان * (يحرفون) * بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الكلم ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه، والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة (41) من قوله سبحانه: * (من بعد مواضعه) * أن الثاني أدل على ثبوت مقار الكلم واشتهارها مماهنا، وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع
(٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 ... » »»