تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٥ - الصفحة ١٨٠
وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري، ثم رأيت العلامة الطيبي عليه الرحمة صرح به أن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين، وأن قوله سبحانه: * (ما يفعل الله بعذابكم) * متصل بقوله تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) * (النساء: 145) الخ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم والانخراط في زمرة الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران، ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن الله تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات، فقوله عز وجل: * (إن شكرتم) * فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه، فقوله عز من قائل: * (وآمنتم) * تفسير له وتقرير لمعناه أي: وآمنتم الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل، فتقديم الشكر على الايمان وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا:
* (وكان الله شاكرا) * أي مثيبا على الشكر * (عليما) * بجميع الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر، وإلى هذا ذهب الإمام، وقال غير واحد: الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية، وقيل: معناه المثني على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: أما في قوله سبحانه: * (ويستفتونك في النساء) * إلى قوله عز وجل: * (وكان الله واسعا حكيما) * (النساء: 127 - 130) فقد قال النيسابوري فيه: إن النفس للروح كالمرأة للزوج، * (ويتامى النساء) * صفات النفوس، و * (ما كتب لهن) * ما أوجب الله تعالى من الحقوق. وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح) * (النساء: 128) فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى، والنفس تشح بترك حظوظها فلا تميلوا كل الميل في رفض حظوظ النفس، فقد جاء في الخبر " إن لنفسك عليك حقا " * (فتذروها كالمعلقة) * (النساء: 129) بين العالم العلوي والعالم السفلي * (وإن يتفرقا) * أي الروح والنفس * (يغن الله كلا من سعته) * فالروح يجتذب بجذبة - خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته - فيستغني عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود، والنفس تجتذب بجذية ارجعي إلى ربك إلى سعة غنى الله تعالى في عالم * (فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) * (الفجر: 28 - 30) انتهى، ولايخفى أن باب التأويل واسع، وما ذكره ليس بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد؛ وأما في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا) * الخ فنقول: إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونوا ثابتين في مقام العدالة التي
(١٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 182 » »»