وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من جنسه هو المختار، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فلو قلت: جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز، ولو قلت: أكلت رغيفا، وهذا قميص آخر لم يحسن، وأما قول الشاعر: صلى على عزة الرحمن وابنتها * ليلى وصلى على جاراتها (الأخر) فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها، ولولا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات، بل كان يقول: وصلى على بناتها الأخر، وقد قوبل في البيت أيضا - أخر - وهو جمع بابنتها وهو مفرد، وزعم السهيلي أن - أخرى - في قوله تعالى: * (ومناة الثالثة الأخرى) * (النجم: 20) استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير مناة الطاغية التي كانوا يهلون إليها بقديد؛ فجعلها ثالثة اللاة والعزى، وأخرى لمناة التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى، وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى، ألا ترى أن كل واحدة منهن ثالثة بالنظر إلى صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى. وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية الآتي ذكرها، وفي " المسائل الصغرى " للأخفش في باب عقده لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ما قبله، فلو قلت: أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو من الكلام، وهو يشبه - سائر وبقية وبعض - في أنه لا يستعمل إلا في جنسه، فلو قلت: ضربت رجلا وتركت سائر النساء لم يكن كلاما، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظرا إلى أنه دابة قال امرؤ القيس:
إذا قلت: هذا صاحبي ورضيته * وقرت به العينان بدلت (آخرا) وفي الحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة في مرضه فقال: أنظروا من أتكيء عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما ". وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلا، وحينئذ لا يكون ما ذكره الزمخشري نصا في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور * (وكان الله على ذلك) * أي إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين * (قديرا) * بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا..
* (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والاخرة وكان الله سميعا بصيرا) *.
* (من كان يريد ثواب الدنيا) * كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية. * (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) * جزاء الشرط بتقدير الإعلام والإخبار أي: من كان يريد ثواب الدنيا فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فما له لا يطلب ذلك كمن يقول: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) * (البقرة: 201)، أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلا خالصا لوجه الله تعالى لم (تخطه) المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء، وفي " مسند أحمد " عن زيد بن ثابت " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه في قلبه وأتته