الذنوب ما لم تتغير الفطرة * (غفورا) * النساء: 99) يستر بنور صفاته صفات النفوس القابلة لذلك * (ومن يهاجر في سبيل الله) * عن مقار النفس المألوفة * (يجد في الأرض) * أي أرض استعداده * (مراغما كثيرا) * أي منازلا كثيرة يرغم فيها أنوف قوى نفسه * (وسعة) * أي انشراحا في الصدر لسبب الخلاص من مضايق صفات النفس وأسر الهوى * (ومن يخرج من بيته) * أي مقامه الذي هو فيه مهاجرا إلى الله بالتوجه إلى توحيد الذات * (ورسوله) * بالتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات * (ثم يدركه الموت) * أي الانقطاع * (فقد وقع أجره على الله) * حسبما توجه إليه * (وكان الله غفورا رحيما) * (النساء: 100) فيستر بصفاته صفات من توجه إليه ويرحم من انقطع دون الوصول بما هو أهله، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ثم إنه سبحانه بعد أن أمر بالجهاد ورغب في الهجرة أردف ذلك ببيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المؤنة ما يؤكد العزيمة على ذلك [بم فقال سبحانه وتعالى:
* (وإذا ضربتم فى الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلواة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) *.
* (وإذا ضربتم في الأرض) * أي سافرتم أي سفر كان، ولذا لم يقيد بما قيد به المهاجرة، والشافعي رضي الله تعالى عنه يخص السفر بالمباح - كسفر التجارة - والطاعة - كسفر الحج - ويخرج سفر المعصية - كقطع الطريق والإباق - فلا يثبت فيه الحكم الآتي لأنه رخصة، وهي إنما تثبت تخفيفا وما كان كذلك لا يتعلق بما يوجب التغليظ لأن إضافة الحكم إلى وصف يقتضي خلافه فساد في الوضع، ولنا إطلاق النصوص مع وجود قرينة في بعضها تشعر بإرادة المطلق وزيادة قيد عدم المعصية نسخ على ما عرف في موضعه، ولأن نفس السفر ليس بمعصية إذ هو عبارة عن خروج مديد وليس في هذا شيء من المعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده كما في السرقة، أو مجاوره كما في الإباق فيصلح من حيث ذاته متعلق الرخصة لإمكان الانفكاك عما يجاوره كما إذا غصب خفا ولبسه فإنه يجوز له أن يمسح عليه لأن الموجب ستر قدمه ولا محظور فيه، وإنما هو في مجاوره وهو صفة كونه مغصوبا وتمامه في الأصول والمراد من الأرض ما يشمل البر والبحر، والمقصود التعميم أي إذا سافرتم في أي مكان يسافر فيه من بر أو بحر.
* (فليس عليكم جناح) * أي حرج وإثم * (أن تقصروا) * أي في أن تقصروا، والقصر خلاف المد يقال: قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه، فمتعلق القصر إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر، فقوله تعالى: * (من الصلواة) * ينبغي على هذا أن يكون مفعولا لتقصروا و * (من) * زائدة حسبما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات، وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة - على ما نقله الفاضل المذكور عن سيبويه - أي شيئا من الصلاة فينبغي أن يصار إلى وصف الجزء بوصف الكل، أو يراد بالقصر الحبس كما في قوله تعالى: * (حور مقصورات في الخيام) * (الرحمن: 72) أو يراد بالصلاة الجنس ليكون (المقصود) بعضا منها وهي الرباعية أي فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها، وقرىء * (تقصروا) * من أقصر ومصدره الإقصار وقرأ الزهري * (تقصروا) * بالتشديد ومصدره التقصير والكل بمعنى.
وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر في المشهور - عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه - مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل، ومشي الأقدام بالاقتصاد في البر، وجري السفينة والريح معتدلة في البحر، ويعتبر في الجبل كون هذه المسافة من طريق الجبل بالسير الوسط أيضا، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه التقدير بالمراحل وهو قريب من المشهور.