تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٥ - الصفحة ١١٧
والقائلون بالعفو عن بعض المتوعدين منهم من زعم أن آيات الوعيد إنشاء، ومنهم من قال: إنها أخبار إلا أن هناك شرطا محذوفا للترهيب فلا خلف بالعفو فيها، وقال شيخ الإسلام: " والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه (بذلك) كيف لا وقد قال عز وجل: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) ولو كان هذا إخبارا بأنه سبحانه يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه: * (ويعفو عن كثير) * " (الشورى: 30) وهذا مأخوذ من كلام أبي صالح وبكر بن عبد الله، واعترضه أبو علي الجبائي بأن ما لا يفعل لا يسمى جزاءا ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة فالدراهم التي عند مستأجره لا تسمى جزاءا ما لم تعط له وتصل إليه؟ وتعقبه الطبرسي " بأن هذا لا يصح لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل أم لم يفعل، ولهذا يقال: جزاء المحسن الإحسان وجزاء المسيء الإساءة، وإن لم يتعين المحسن والمسيء حتى يقال: فعل ذلك معهما أو لم يفعل، ويقال لمن قتل غيره: جزاء هذا أن يقتل، (وهو كلام صادق وإن لم يفعل القتل) وإنما لا يقال للدراهم: إنها جزاء الأجير لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة لا في الدراهم المعينة، فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها ".
واعترض بأنا سلمنا أنه لا يلزم في الجزاء أن يفعل إلا أن كثيرا من الآيات كقوله تعالى: * (من يعمل سوءا يجز به) * (النساء: 123) * (ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 8) يدل على أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين ألبتة، وفي الآية ما يشير إليه؛ ولا يخفى ما فيه لأن الآيات التي فيها أنه تعالى يوصل الجزاء إلى مستحقه كلها في حكم آيات الوعيد والعفو فيه جائز، فلا معنى للقول بالبت، ومن هنا قيل: إن الآية لا تصلح دليلا للمعتزلة مع قوله تعالى: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48).
وقد أخرج البيهقي عن قريش بن أنس قال: " كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله تعالى فيقول لي: لم قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية * (ومن يقتل مؤمنا) * الخ فقلت له: وما في البيت أصغر مني أرأيت إن قال لك فإني قد قلت: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد علي شيئا "، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المنذر عن إسماعيل بن ثوبان قال: " جالست الناس قبل الداء الأعظم في المسجد الأكبر فسمعتهم يقولون لما نزلت * (ومن يقتل مؤمنا) * الآية: قال المهاجرون والأنصار وجبت لمن فعل هذا النار حتى نزلت * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * الخ، فقال المهاجرون والأنصار يصنع الله تعالى ما شاء " وبآية المغفرة رد ابن سيرين على من تمسك بآية الخلود وغضب عليه وأخرجه من عنده وكون آية الخلود بعد تلك الآية نزولا بستة أشهر، أو بأربعة أشهر - كما روي عن زيد بن ثابت - لا يفيد شيئا، ودعوى النسخ في مثل ذلك مما لا يكاد يصح كما لا يخفى، وأجاب بعض الناس بأن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل وكفره مما لا شك فيه فليس ذلك محلا للنزاع، ويدل عليه أنها نزلت في الكناني حسبما مرت حكايته، وقد روى عن عكرمة وابن جريج وجماعة أنهم فسروا * (متعمدا) * بمستحيلا؛ واعترض بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وبأن تفسير المتعمد بالمستحل مما لا يكاد يقبل إذ ليس هو معناه لغة ولا شرعا فإن التزم المجاز فلا دليل عليه وسبب النزول لا يصلح أن يكون دليلا لما علمت الآن على أنه يفوت التقابل بين هذا القتل المذكور في هذه الآية والقتل المذكور في الآية السابقة وهو الخطأ الصرف، وقيل: إن الاستحلال يفهم من تعليق القتل بالمؤمن لأنه مشتق؛ وتعليق الحكم بالمشتق
(١١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 ... » »»