تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ٦١
* (فاستغفروا) * محذوف لفهم المعنى أي استغفروه، وليس المراد مجرد طلب المغفرة بل مع التوبة وإلا فطلب المغفرة مع الإصرار كالإستهزاء بالرب جل شأنه، ومن هنا قالت رابعة العدوية: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار.
* (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * اعتراض بين المعطوفين أو بين الحال وذيها، والتركيب على ما أفاده بعض المحققين يدل على أمور من جهة الله تعالى وأمور من جهة العبد. أما الأول: فعلى وجوه: أحدها دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه المقام من معنى الغفران الواسع وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار بأن لم يقل وما يغفر الذنوب إلا الله تقرير لذلك المعنى وتأكيد له كأنه قيل: هل تعرفون أحدا يقدر على غفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها سالفها وغابرها غير من وسعت رحمته كل شيء؟ وثانيها: تقديمه عن مكانه وإزالته عن مقره لأنه اعتراض بين المبتدأ وهو الذين والخبر الآتي، ثم بين المعطوف والمعطوف عليه أو الحال وصاحبه للدلالة على شدة الاهتمام به والتنبيه على أنه كلما وجد الاستغفار لم يتخلف الغفران، وثالثها: الاتيان بالجمع المحلى باللام إعلاما بأن التائب إذا تقدم بالاستغفار يتلقى بغفران ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له، ورابعها: دلالة النفي بالحصر والإثبات على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله، وذلك أن من وسعت رحمته كل شيء لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا، وخامسها: إسناد غفران الذنوب إلى نفسه سبحانه وإثباته لذاته المقدس بعد وجود الاستغفار وتنصل عبيده يدل على تحقق ذلك قطعا إما بحسب الوعد كما نقول، أو بحسب العدل كما يزعمه المعتزلة.
وأما الثاني: ففيه وجوه أيضا: الأول: إن في إبداء سعة الرحمة واستعجال المغفرة بشارة عظيمة وتطييبا للنفوس، والثاني: أن العبد إذا نظر إلى هذه العناية الشديدة والاهتمام العظيم في شأن التوبة يتحرك نشاطه ويهتز عطفه فلا يتقاعد عنها، والثالث: أن في ضمن معنى الاستغراق قلع اليأس والقنوط ولهذا علل سبحانه النهي في قوله تعالى: * (لا تقنطوا من رحمة الله) * بقوله جل شأنه: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53) والرابع: أنه أطلقت الذنوب وعمت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس وترك مقتضى الظاهر ليدل به على عدم المبالاة في الغفران فإن الذنوب وإن كبرت فعفو الله تعالى أكبر، والخامس: أن الاسم الجامع في التركيب كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل أيضا مع إرادة الحصر على أنه تعالى وحده معه مصححات المغفرة من كونه عزيزا ليس فوقه أحد فيرد عليه حكمه وكونه حكيما يغفر لمن تقتضي حكمته غفرانه. وقد التزم بعضهم كون - أل - في * (الذنوب) * للجنس لتفيد الآية امتناع صدور مغفرة فرد منها من غيره تعالى، وهذا على ظنه لا تفيده الآية على تقدير إرادة كل الذنوب وحينئد يزداد أمر المبالغة، وأما جعل الجملة حالية بتقدير قائلين ذلك فتعسف يذهب بكثير من هذه الوجوه اللطيفة كما لا يخفي، و * (من) * مبتدأ و * (يغفر) * خبره والاسم الجليل بدل من المستكن في * (يغفر) * أو فاعل له.
* (ولم يصروا ما فعلوا) * عطف على * (فاستغفروا) * أو حال من فاعله أي لم يقيموا أو غير مقيمين على الذي فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم، وأصل الإصرار الشد من الصر، وقيل: الثبات على الشيء، ومنه قوله الحطيئة يصف الخيل:
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا * غلالتها بالمحصدات (أصرت) ويستعمل شرعا بمعنى الإقامة على القبيح غير استغفار ورجوع بالتوبة، والظاهر أنه لا يصح إرادة هذا
(٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 ... » »»