الله سبحانه ولا يرد على هذا دعوى عدم الفائدة كما أورد أولا إذ من المعلوم الذي لا شبهة أولا فيه أن ترك الإصرار إنما يوجب الأجر إذا لم يكن معه يأس فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولعل مدحهم بأنهم يعلمون ذلك أولى من مدحهم بأنهم يعلمون قبح الفعل، وربما يقال: إن الجملة سيقت معترضة لذلك كما سيقت كذلك جملة * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * لما سيقت له، وأما جعلها معطوفة على جملة - لم يصروا - ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا فليس بالذي تميل النفس إليه.
* (أولئك جزآؤهم مغفرة من ربهم وجنات جرى من تحتها الانها خادين فيها ونعم أجر العالين) *.
* (أولئك شارة إلى المذكورين أخيرا باعتبار اتصافهم بما تقدم من الصفات الحميدة، والبعد للإشعار ببعد منزلتهم في الفضل، وإلى هذا ذهب المعظم، وقيل: هو إشارة إلى المذكورين وهم طائفة واحدة، وهو مبتدأ وقوله تعالى: * (جزاؤهم) * بدل اشتمال منه أو مبتدأ ثان، وقوله تعالى: * (مغفرة) * خبر * (أولئك) * أو خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر الأول، وهذه الجملة خبر * (والذين إذا فعلوا) * (آل عمران: 135) الخ على الوجه الأول، وادعى مولانا شيخ الإسلام " أنه الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء إذ على الوجهين الأخيرين * (أولئك) * الخ جملة مستأنفة مبينة لما قبلها كاشفة عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يذكر ما هو من أوصاف الأولين ما فيه شائبة الذنب حتى يذكر في مطلع الجزاء الشامل لهما المغفرة، وتخصيص الإشارة بالأخيرين مع اشتراكهما في حكم إعداد الجنة لهما تعسف ظاهر " انتهى.
والذي يشعر به ظاهر ما أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه قرأ: * (الذين ينفقون في السراء والضراء) * (آل عمران: 134) الآية ثم قرأ * (والذين إذا فعلوا فاحشة) * (آل عمران) 135) الآية فقال: إن هذين النعتين لنعت رجل واحد أحد الوجهين الأخيرين اللذين أشار إليهما بل الأول منهما، وتكون هذه الإشارة كما قال صاحب القيل، وهذه المغفرة هي المغفرة التي أمر جميع المؤمنين من له ذنب ومن لا ذنب له منهم بالمسارعة إلى ما يؤدي إليها فلا يضر وقوعها في مطلع الجزاء.
* (من ربهم) * متعلق بمحذوف وقع صفة للمغفرة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي مغفرة عظيمة كائنة من جهته تعالى، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للاشعار بعلة الحكم مع التشريف * (وجنات تجري من تحتها الأنهار) * عطف على مغفرة والمراد بها جنات في ضمن تلك الجنة التي أخبر سبحانه أن عرضها السموات والأرض وليس جنات وراءها على ما يقتضيه كلام صاحب القيل إلا أنه لم يكتف بإعداد ما وصف أولا تنصيصا على وصفها باشتمالها على ما يزيدها بهجة من الأنهار الجارية بعد وصفها بالسعة والإخبار بأنها جزاؤهم وأجرهم الذي لا بد بمقتضى الفضل أن يصل إليهم، وهذا فوق الاخبار بالإعداد أو مؤكد له فالتنوين للتعظيم على طرز ما ذكر في المعطوف عليه، وادعى شيخ الإسلام أن التنكير يشعر بكونها أدنى من الجنة السابقة، وإن ذلك مما يؤيد رجحان الوجه الأول الذي أشار إليه وفيه تردد * (خالدين فيها) * حال مقدرة من الضمير المجرور في جزاؤهم لأنه مفعول به معنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها، ولا مساغ لأن يكون حالا من (جنات) في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ لو كان كذلك لأبرز الضمير على ما عليه الجمهور.
* (ونعم أجر العالين) * المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين الجنة، وعلى ذلك اقتصر مقاتل، وذهب غير واحد أنه ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجنات.