تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٩٤
النكاح فقد قال الإمام النووي: " لا يعلم أحد أوجب النكاح إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر، ورواية عن أحمد فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم خوف العنت، وقال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزوج فقط ولا يلزمه الوطء... واختلف العلماء في الأفضل من النكاح وتركه. وذكر الإمام النووي أن الناس في ذلك أربعة أقسام: قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤمن فيكره له، وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له أيضا، وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان، وقسم يجد المؤن ولا تتوق نفسه، فمذهب الشافعي وجمهور الشافعية أن ترك النكاح لهذا والتخلي للتحلي بالعبادة أفضل، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك والشافعي أن النكاح له أفضل انتهى المراد منه ".
وأنت تعلم أن المذكور في كتب ساداتنا الحنفية متونا وشروحا مخالف لما ذكره هذا الإمام في تحقيق مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، ففي " تنوير الأبصار " وشرحه " الدر المختار " في كتاب النكاح ما نصه: " ويكون واجبا عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض كما في " النهاية " وهذا إن ملك المهر والنفقة وإلا فلا إثم بتركه كما في البدائع "، ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينا وولدا حال الاعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة. ورجح في " النهر " وجوبه للمواظبة عليه، والإنكار على من رغب عنه، ومكروها لخوف الجور فإن تيقنه حرم " انتهى؛ لكن في دليل الوجوب على ما ذكره صاحب " النهر " مقالا للمخالفين وتمام الكلام في محله.
هذا وقد قيل: في تفسير الآية الكريمة أن المراد من النساء اليتامى أيضا، وأن المعنى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى المرباة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من يتامى قراباتكم، وإلى هذا ذهب الجبائي وهو كما ترى، وقيل: إنه لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفا من لحوق الحوب بترك الإقساط مع أنهم كانوا لا يتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه، وإلى نحو من هذا ذهب ابن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك وابن عباس في إحدى الروايات عنه، وقيل: كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم الحوب في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، ونظيره ما إذا داوم على الصلاة من لا يزكي فتقول له: إن خفت الإثم في ترك الصلاة فخف من ترك الزكاة، وإلى قريب من هذا ذهب مجاهد.
وتعقب هذين القولين العلامة شيخ الإسلام بقوله: ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لابتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس وظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * إلى قوله سبحانه: * (وكفى بالله حسيبا) * (النساء: 5، 6) ويفهم من كلام بعض المحققين أيضا أن الأظهر في الآية ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها دون هذين القولين لأن الآية على تلك الرواية تتنزل على قوله تعالى: * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء
(١٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 189 190 191 192 193 194 195 196 197 198 199 ... » »»