تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٩٢
اللزوم ممنوع لعدم دلالة الكلام على الحصر فإن الإنسان إذا قال لولده: افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان هذا تنصيصا في تفويض زمام الاختيار إليه مطلقا ورفع الحجر عنه ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا هنا؛ وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر - فإذا ذكر بعض الأعداد بعد فانكحوا ما طاب لكم من النساء كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد - كلام ليس في محله، وفرق ظاهر بين ما نحن فيه والمثال الحادث.
وقد ذكر الإمام الرازي شبه المجوزين التزوج بأي عدد أريد، وأطال الكلام في هذا المقام إلا أنه لم يأت بما يشرح الصدر ويريح الفكر، وذلك أنه قال: " إن قوما شذاذا ذهبوا إلى جواز التزوج بأي عدد واحتجوا بالقرآن والخبر، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية بثلاثة أوجه: الأول: إن قوله سبحانه: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا، والثاني: أن * (مثنى وثلاث ورباع) * لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن التخصيص بالبعض لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي، والثالث: أن الواو للجمع المطلق - فمثنى وثلاث ورباع - يفيد حل المجموع وهو تسع بل ثماني عشرة. وأما الخبر فمن وجهين: الأول: أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال: * (واتبعوه) * (الأعراف: 158) وأقل مراتب الأمر الإباحة، الثاني: أن سنة الرجل طريقته والتزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم فكان ذلك سنة له ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال: " من رغب عن سنتي فليس مني " وظاهر الحديث يقتضي توجه الذم على من ترك التزوج بالأكثر من الأربع فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز، ثم قال: واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين: الأول: الخبر، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشرة نسوة فقال صلى الله عليه وسلم: " أمسك أربعا وفارق سائرهن " وهذا الطريق ضعيف لوجهين الأول: أن القرآن لما دل على عدم الحصر (فلو أثبتنا الحصر) بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز، والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربع و (بين) البواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع، وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله، والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد لكن فيه سؤالان: الأول: أن الاجماع (لا ينسخ ولا ينسخ) فكيف يقال: إن الإجماع نسخ هذه الآية، الثاني: أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والإجماع عند مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد. وأجيب عن السؤال الأول أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الثاني أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته (فلا تضر في انعقاد الاجماع) " انتهى.
ولا يخفى ما في احتجاج الشذاذ بالآية من النظر، ويعلم ذلك من التأمل فيما ذكرنا. وأما الاحتجاج بالخبر فليس بشيء أيضا لأن الإجماع قد وقع على أن الزيادة على الأربع من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ونحن مأمورون باتباعه والرغبة في سنته عليه الصلاة والسلام في غير ما علم أنه من الخصوصيات أما فيما علم أنه منها فلا، وأما الأمران اللذان اعتمد عليهما الفقهاء في هذا المقام ففي غاية الإحكام.
(١٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 187 188 189 190 191 192 193 194 195 196 197 ... » »»