تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٣٧
إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما، وتعليق الميز بالخبيث مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم قاله بعض المحققين، وقيل: إنما قدم الخبيث على الطيب وعلق به فعل الميز إشعارا بمزيد رداءة ذلك الجنس فإن الملقى من الشيئين هو الأدون.
وقرأ حمزة والكسائي * (يميز) * بالتشديد وماضيه ميز، وماضي المخفف ماز، وهما - كما قال غير واحد - لغتان بمعنى واحد، وليس التضعيف لتعدي الفعل كما في فرح وفرح، لأن ما زوميز يتعديان إلى مفعول واحد، ونظير ذلك عاض وعوض، وعن ابن كثير أنه قرىء * (يميز) * بضم أوله مع التخفيف على أنه من أماز بمعنى ميز، واختلف بم يحصل هذا الميز؟ فقيل: بالمحن والمصائب كما وقع يوم أحد، وقيل: بإعلاء كلمة الدين وكسر شوكة المخالفين، وقيل: بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا أردفه سبحانه بقوله:
* (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ول‍اكن الله يجتبي من رسله من يشاء) * ومن هنا جعل مولانا شيخ الإسلام ما قبل الاستدراك تمهيدا لبيان الميز الموعود به على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم، والاستدراك إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وأن المعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادي حتى يخرج المنافقين من بينهم، وما يفعل ذلك بإطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حكي عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ويخلصكم مما تكرهون، وذكر أنه قد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله تعالى قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور، فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به، وتعقبه بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبىء عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في أن المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحي لا بطريق التكليف بما يؤدي إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء.
وأنت تعلم أن دعوى أن الاستدراك صريح فيما ادعاه من المراد مما لا يكاد يثبته الدليل، ولهذا قيل: إن حاصل المعنى ليس لكم رتبة الاطلاع على الغيب وإنما لكم رتبة العلم الاستدلالي الحاصل من نصب العلامات والأدلة، والله تعالى سيمنحكم بذلك فلا تطمعوا في غيره فإن رتبة الاطلاع على الغيب لمن شاء من رسله، وأين أنتم من أولئك المصطفين الأخيار؟ نعم ما ذكره هذا المولى أظهر وأولى، وقد سبقه إليه أبو حيان، والمراد من قوله سبحانه: * (ليطلعكم) * إما ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب أو ليطلع جميعكم أي أنه تعالى لا يطلع جميعكم على ذلك بل يختص به من أراد، وأيد الأول بأن سبب النزول أكثر ملاءمة له.
(١٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 132 133 134 135 136 137 138 139 140 141 142 ... » »»