وشبوا في أفئدتهم نار الغيرة والأسف وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب فعوضوا هذا العذاب الشديد، وقيل: لهم ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم أولياء الله تعالى في الدنيا ما يكرهون. والقائل لهم ذلك - كما قال الضحاك - خزنة جهنم، فالإسناد حينئذ مجازي، وفي هذه الآية مبالغات في الوعيد حيث ذكر فيها العذاب والحريق والذوق المنبىء عن اليأس فقد قال الزجاج: ذق كلمة تقال لمن أيس عن العفو أي ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص منه والمؤذن بأن ما هم فيه من العذاب والهوان يعقبه ما هو أشد منه وأدهى، والقول للتشفي المنبىء عن كمال الغيظ والغضب وفيما قبلها ما لا يخفى أيضا من المبالغات، وقرأ حمزة * (سيكتب) * بالياء والبناء للمفعول * (وقتلهم) * بالرفع، ويقول بصيغة الغيبة.
* (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) *.
* (ذلك) * إشارة إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد، وللإشارة إلى عظم شأنه وبعد منزلته في الهول والفظاعة أتى باسم الإشارة مقرونا باللام والكاف وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: * (بما قدمت أيديكم) * أي بسبب أعمالكم التي قدمتموها كقتل الأنبياء وهذا القول الذي تكاد السموات يتفطرن منه، والمراد من الأيدي الأنفس والتعبير بها عنها من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جل العمل عليه، يجوز أن لا يتجوز في الأيدي بل يجعل تقديمها الذي هو عملها عبارة عن جميع الأعمال التي أكثرها أو الكثير منها يزاول باليد على طريق التغليب.
* (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * عطف على ما * (قدمت) * فهو داخل تحت حكم باء السببية وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء - وإليه ذهب الفحول من المفسرين - وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بقوله: وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب. وخلاصته المعارضة بطريق القياس الاستثنائي بأنه لو كان ترك التعذيب ظلما لكان نفي الظلم سببا للتعذيب لكن ترك التعذيب ليس بظلم فنفي الظلم لا يكون سببا له، وأجيب بأن منشأ هذا الاعتراض عدم الفرق بين السبب والعلم الموجبة، والفرق مثل الصبح ظاهر فإن السبب وسيلة محضة لا يوجب حصول المسبب كما أن القلم سبب الكتابة غير موجب إياها، والعدل اللازم من نفي الظلم سبب لعذاب المستحق وإن لم يوجبه. فالاستدلال بعدم الإيجاب على عدم السببية فاسد جدا، وأما قولهم في العدل المقتضي الخ فهو بيان لمقتضاه إذا خلى وطبعه، وتقرير لكونه وسيلة ولا يلزم منه إيجاب الاثابة والمعاقبة على ما ينبىء عنه قوله سبحانه في الحديث القدسي: " سبقت رحمتي غضبي "، وخلاصة هذا أن الملازمة بين المقدم والتالي في القياس الاستثنائي ممنوعة بأنه لم لا يجوز أن لا يكون ترك التعذيب ظلما ويكون نفي الظلم سببا بأن يكون السبب سببا غير موجب ولا محذور حينئذ. لا يقال يحتمل أن يكون مبنى ذلك الاعتراض على المفهوم المعتبر عند الشافعي لا على كون السبب موجبا لأنا نقول: إن أريد بالمفهوم مفهوم قوله سبحانه: * (وأن الله) * الخ فنقول: حاصله أن العدل سبب لعذاب المستحقين، والمفهوم منه أن العدل لا يكون سببا لعذاب غير المستحقين وهو معنى متفق عليه لا نزاع فيه، وإن أريد أن المفهوم من قولنا سبب تعذيبهم كونه تعالى غير ظالم أنه تعالى لو لم يعذبهم لكان ظالما فنقول هو مع بعده عن سياق كلام المعترض من قبيل الاستدلال بانتفاء السبب على انتفاء المسبب فيكون مبنيا على كون المراد بالسبب السبب الموجب - كما قلنا - ويرد عليه ما أوردناه ولا يكون من باب المفهوم في شيء وإن أريد غير هذا وذاك فليبين حتى نتكلم عليه، ومن الناس من دفع الاعتراض بأن حاصل معنى الآية وقع العذاب